16) قوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } (196)
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى : أن كعب بن عجرة حدثه , قال : وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية و رأسي يتهافت قملا , فقال " يؤذيك هوامك ؟" قلت : نعم , قال " فاحلق رأسك – أو قال – احلق " قال : في نزلت هذه الآية { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه } .. إلى أخرها .. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " صم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق بين ستة أو انسك بما تيسر } .
( قلت محمود ) و أذكر الرواية الأخرى للبخاري إتماما للفائدة من كتاب التفسير و فيها قال كعب : حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم و القمل يتناثر على وجهي فقال " ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا , أما تجد شاة ؟ " قلت : لا , قال " صم ثلاثة أيام , أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام , و احلق رأسك " فنزلت في خاصة و هي لكم عامة .
وقال بن حجر .. قال عياض : ظاهره أن النزول بعد الحكم . و في رواية عبد الله بن معقل أن النزول قبل الحكم ( أي أن هناك حديث يشير إلى أن نزول الآية كان قبل حكم الرسول فيها لكعب , و حديث آخر يشير إلى العكس ) . قال (عياض ) : فيحتمل أن يكون حكم عليه بالكفارة بوحي لا يتلى ثم نزل القرآن ببيان ذلك . قلت ( الحافظ بن حجر ) و هو يؤيد الجمع المتقدم .
(17) قوله تعالى { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } (197).
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن بن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون و لا ينزودون و يقولون : نحن المتوكلون فإذا قدموا المدينة سألوا الناس فأنزل الله تعالى { و تزوّدوا فإن خير الزاد التقوى } و رواه بن عيينة عن عمرو عن عكرمة مرسلا .
(قلت : محمود) ولأهل العلم في تفسير تلك الآية عدة أقوال .. منها ما ذكره القاسمي : أن قوله تعالى { و تزودوا } أمر باتخاذ الزاد : وهو طعام السفر , و قوله : { فإن خير الزاد التقوى } إرشاد إلى زاد الآخرة , و هو استصحاب التقوى إليها بعد الأمر بالزاد للسفر في الدنيا كما قال تعالى { وريشا و لباس التقوى ذلك خير } (الأعراف 26) لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشدا إلى اللباس المعنوي و هو الخشوع و الطاعة , وذكر أنه خير من هذا و أنفع .
(قلت محمود ) و لا يعني ذلك التخلي عن السبب المعنوي ألا وهو التزود بالطعام و الراحلة استدلالا على ذلك بلفظة ( خير ) و إنما المعنى أنه أحسن من الدنيا الآخرة .. و تزود إلى جانب الدنيا بالآخرة , هي أنفع و أبقى .. و الله تعالى أعلم .
(18) قوله تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } (198)
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن بن عباس رضي الله عنهما قال : كانت عكاظ و مجنة و ذو المجاز أسواقا في الجاهلية , فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة , فأنزل الله تعالى { ليس عليكم جناح } في مواسم الحج .. قرأ بن عباس كذا .
( قلت : محمود .. قال بن حجر في الفتح (4\456) قال ابن بطال : أن مواضع المعاصي و أفعال الجاهلية لا تمنع من الطاعة فيها .ا.هـ .. قلت (محمود) و قول بن عباس رضي الله عنهما في آخر الحديث (في مواسم الحج) هو تفسير للآية .. و لكن قال الحافظ بن حجر تعليقا على أن ذلك ليس بتفسير ( 3\ 855) ورواه بن عمر في مسنده عن بن عيينة و قال في آخره : و كذلك كان بن عباس يقرأها , وروى الطبري بسند صحيح عن أيوب عن عكرمة أنه كان يقرأها كذلك ( أي بن عباس ) , فهي على هذا من القراءة الشاذة , و حكمها عند الأئمة حكم التفسير , واستدل بهذا الحديث على جواز البيع و الشراء للمعتكف قياسا على الحج , و الجامع بينهما العبادة , وهو قول الجمهور . وعن مالك كراهة ما زاد على الحاجة كالخبز إذا لم يجد من يكفيه , وكذا كرهه عطاء و الزهري وجاهد , و لا ريب أنه خلاف الأولى , و الآية نفت الجناح و لا يلزم من نفيه نفي أولوية مقابلة , و الله أعلم . ا.هـ.)
( قلت .. محمود , إذا يجوز البيع و الشراء في الحج و على هذا جماهير العلماء .. لكن قال بعض العلماء : إن تفرغ الحاج للحج و أعماله أفضل من الاشتغال بالتجارة , وغاية ما في قوله تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } رفع الإثم و الحرج عن من تاجر و اكتسب و الله تعالى أعلم . ( التسهيل في تأويل التنزيل .. سورة البقرة لشيخنا مصطفى العدوي )
* و أخرج أبو داود رحمه الله , قال : حدثنا مسدد , نا عبد الواحد بن زياد , نا علاء بن المسيب , نا أبو أمامة التيمي , قال : كنت رجلا أكري في هذا الوجه و كان ناسا يقولون إنه ليس لك حج .. فلقيت بن عمر فقلت : يا أبا عبد الرحمن إني رجل أكري في هذا الوجه و إن ناسا يقولون إنه ليس لك حج ؟ فقال بن عمر : أليس تحرم و تلبي و تطوف بالبيت و تفيض من عرفات و ترمي الجمار ؟ قال : قلت : بلى , قال : فإن لك حجا . جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن مثل ما سألتني عنه , فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم و لم يجبه حتى نزلت هذه الآية { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم و قرأ عليه هذه الآية , وقال " لك حج " .
(19) قوله تعالى { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } (199)
* أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير قال : كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلا الحمس , و الحمس قريش و ما ولدت , وكانت الحمس يحتسبون على الناس يعطي الرجل الرجل الثياب يطوف فيها و تعطي المرأة المرأة الثياب تطوف فيها فمن لم يعطه الحمس طاف عريانا , و كان يفيض جماعة الناس من عرفات و يفيض الحمس من جمع . قال : و أخبرني أبي عن عائشة رضي الله عنها أن هذه الآية نزلت في الحمس { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } قال : كانوا يفيضون من جمع فدفعوا إلى عرفات .
قلت (محمود) و لأهل العلم في تفسير هذه الآية قولان .. الأول .. هو الحديث السابق و هو قول أكثر أهل العلم .. لأن قريش و أبنائها كانت لا تتجاوز المشعر الحرام ( مزدلفة) و لا يصلون إلى عرفات .. فكأن معنى الآية : ثم أنتم أيضا يا معشر قريش سيروا مع الناس إلى عرفات و أفيضوا من عرفات كسائر الناس .
و القول الثاني : أنه خطاب لجميع الحجيج { ثم أفيضوا } , و المراد بالناس إبراهيم عليه الصلاة و السلام , و إن تسائل سائل كيف يقول {الناس} و إبراهيم عليه السلام فرد .. و الجواب أن هذا في لغة العرب و في القرآن كثير كقوله تعالى { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } و الذي قال ذلك واحد . وكذلك قوله تعالى { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات و اعملوا صالحا } .. و نظائر ذلك في كلام العرب كثير . انظر ( تفسير الطبري , و التسهيل في تأويل التنزيل لشيخنا مصطفى العدوي ) .
* و كذلك أخرج البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها : كانت قريش و من دان دينها يقفون بالمزدلفة و كانوا يسمون الحمس , و كان سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } .
(20) قوله تعالى { و من الناس من يشري نفسه إبتغاء مرضات الله } (207)
أخرج الحاكم في مستدركه .. من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال : لما خرج صهيب مهاجرا تبعه أهل مكة , فنثل كنانته , فأخرج منها أربعين سهما فقال : لا تصلون إلي حتى أضع في كل رجل منكم سهما ثم أصير بعده إلى السيف فتعلمون أني رجل و قد خلفت بمكة قينتين فهما لكم . ( قلت محمود الحديث إلى هنا مرسل و لكن يشهد له القدر الذي بعده ( انظر التسهيل في تأويل التنزيل ج3 ص258 سورة البقرة))
قال (سليمان بن حرب): و حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس : نحوه , و نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم { و من الناس من يشر ي نفسه ابتغاء مرضات الله } . فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال " أبا يحى : ربح البيع " , قال : و تلا عليه الآية .
قلت (محمود) القانية هي الجارية التي تحسن الغناء .. و هذه الآية هي في كل مجاهد في سبيل الله كما هو قول الأكثر من أهل العلم .كما قال تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يقتلون وعدا عليه حقا في التوراة و الإنجيل و القرآن و من أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم و ذلك هو الفوز العظيم } (برآءة 111).
الآيات القادمة إن شاء الله : البقرة ( 219 , 222, 223 , 232, 238)