6) قوله تعالى { و لمّا جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا } (89)
قال بن إسحاق و حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا : إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى و هداه لنا لما كنا نسمع من رجال يهود . و كنا أهل شرك أصحاب أوثان , و كانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا , و كانت لا تزال بيننا و بينهم شرور , فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا : إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد و إرم , فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم , فلما بعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله تعالى و عرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به و كفروا به , ففينا و فيهم نزلت هذه الآية من البقرة { و لمّا جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين } ا.هـ . من سيرة بن هشام .
وهو حديث حسن , فإن بن إسحاق صرّح بالتحديث فحديثه حسن كما ذكره الحافظ الذهبي في (( الميزان )) .
( قلت : محمود : و أما قوله في السند " عن رجال من قومه " فهذا ليس جهالة في رجال السند , و لكن هؤلاء الرجال هم من الصحابة و عدم تسمية الصحابي في الحديث لا تضر , فالصحابة كلهم عدول و الحمد لله " .
أما عن ابن إسحاق فلابد أن يصرّح بالسماع لأنه مدلّس " أي يوهم بالسماع ممن يروي عنه و هو لم يسمع فيقول عن فلان " و إلا فحديثه يكون منقطعا وهو من أقسام الحديث الضعيف )
(7) قوله تعالى { سيقول السفهاء من الناس ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } (142)
قال بن إسحاق :
حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق عن البراء قال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس و يكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله , فأنزل الله : { قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام }
قال رجال من المسلمين : وددنا لو علمنا علم من مات قبل أن نصرف إلى القبلة , فأنزل الله { و ما كان الله ليضيع إيمانكم } .
وقال السفهاء من الناس : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها , فأنزل الله { سيقول السفهاء من الناس } إلى آخر الآية ا.هـ . منقولا من لباب النقول في أسباب النزول } للحافظ السيوطي و من تفسير الحافظ بن كثير .
(قلت محمود , و هناك لفظة " فوددنا لو علمنا علم من مات " و هذه اللفظة في الطبعة بين أيدينا ( الحرمين ) و لكن لما رجعنا لتفسير بن كثير وجدناها من دونها .. وهي أصوب , و الله تعالى أعلم .)
(8) قوله تعالى { ومكان الله ليضيع إيمانكم } (143)
أخرج البخاري عن البراء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا . وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت و أنه صلى أو صلاها صلاة العصر و صلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل مسجد و هم راكعون قال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت . وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا فلم ندر ما نقول فيهم . فأنزل الله { وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم }.
قال الحافظ في الفتح (1\104) و للمصنف ( أي للبخاري ) في التفسير من طريق الثوري عن أبي إسحاق سمعت البراء . فأمن ما يخشى من تدليس أبي اسحاق .
وأخرج الإمام الترمذي من طريق سماك عن عكرمة عن بن عباس قال : لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا و هم يصلون إلى بيت المقدس ؟
فأنزل الله تعالى { و ما كان الله ليضيع إيمانكم } الآية . قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح .
* في رواية سماك عن عكرمة اضطراب , لكنه شاهد لما قبله كما ترى .. و الحديث أخرج أبو داود و الطيالسي و الحاكم و قال : صحيح الإسناد و سكت عليه الذهبي .
( قلت : محمود .. و الشاهد لأي حديث يجب أن يكون من طريق صحابي آخر حتى يصلح شاهدا )
(9) قوله تعالى { قد نرى تقلّب وجهك في السماء } (144)
أخرج الإمام البخاري عن البراء بن عازب قال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس شتة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة , فأنزل الله عز وجل { قد نرى تقلّب وجهك في السماء } , فتوجه نحو الكعبة . وقال السفهاء من الناس و هم اليهود : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها : { قل لله المشرق و المغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } , فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجل ثم خرج بعد ما صلّى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس . فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم و أنه توجه نحو الكعبة فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة .
والحديث أخرجه الترمذي و ابن ماجة و أحمد و الدارقطني و ابن سعد و ابن أبي حاتم كما في تفسير بن كثير .
وأخرج الإمام مسلم عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولي وجهك شطر المسجد الحرام } . فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر و قد صلّوا ركعة , فنادى ألا أن القبلة قد حولت فماول كما هم نحو القبلة .
( قلت : محمود .. قال بن حجر الفتح (1\735) ووقع بيان كيفية التحول في حديث ثويلة بنت أسلم عند ابن أبي حاتم و قد ذكرت بعضه قريبا و قالت فيه " فتحول النساء مكان الرجال و الرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين إلى البيت الحرام " . قلت ( بن حجر ) : و تصويره أن الإمام تحول من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخر المسجد , لأن من استقبل الكعبة استدبر بيت المقدس , و هو لو دار كما هو في مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف , و لما تحول الإمام تحول الرجال حتى صاروا خلفه و تحولت النساء حتى صرن خلف الرجال , و هذا يستدعي عملا كثيرا في الصلاة فيحتمل أن يكون وقع ذلك قبل تحريم العمل الكثير كما كان قبل تحريم الكلام , و يحتما أن يكون اغتفر العمل المذكور من أحل المصلحة المذكورة . أو لم تتوال الخطا عند التحويل بل وقعت مفرقة . و الله أعلم . ا.هـ )
(10) قوله تعالى { إن الصفا و المرو ة من شعائر الله } (158)
أخرج الإمام البخاري في صحيحه من طريق الزهري قال عروة : سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها : أرأيت قول الله تعالى { إن الصفا و المروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما } فوالله ما على أحد جناح أن يطوف بالصفا و المروة .
فقالت : بئس ما قلت يا بن أختي , إن هذه الآية لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح عليه ألا يتطوف بهما , لكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها بالمشلل فكان من أهلّ يتحرج أن يطوف بالصفا و المروة فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك , قالوا : يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا و المروة .. فأنزل الله تعالى { إن الصفا و المروة من شعائر الله } الآية .
قالت عائشة رضي الله عنها : و قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما , فليس لأحد أن يترك الطواف بهما .
ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال : إن هذا العلم ما كنت سمعته و لقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس , إلا من ذكرت عائشة ممن كان يها بمناة , كانوا يطوفون كلهم بالصفا و المروة , فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت و لم يذكر الصفا و المروة في القرآن , قالوا : يا رسول الله كنا نطوف بالصفا و المروة و إن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا و المروة فهل علينا من حرج أن نطوف بين الصفا و المروة ؟ فأنزل الله تعالى { إن الصفا و المروة من شعائر الله } الآية .
قال أبو بكر : فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما : في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا و المروة , و الذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت و لم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت .
و الحديث أخرجه مسلم و الترمذي و أبو داواد و النسائي و أحمد و مالك في الموطأ و الحميدي .
و أخرج البخاري من طريق عاصم بن سليمان , قال : سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن الصفا و المروة , فقال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله تعالى { إن الصفا و المروة من شعائر الله ..} الآية
ولا مانع من أن الآية نزلت في الجميع .
( قلت .. محمود و سبب نزول الآية غير أصل العبادة .. قال بن كثير رحمه الله : و قد تقدم في حديث بن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر و تردادها بين الصفا و المروة متذذلة خائفة مضطرة فقيرة إلى الله عز وجل حتى كشف الله كربتها و آنس غربتها .. الخ كلامه رحمه الله فليراجعه من شاء )