تميّز الصراع على القدس بخصوصية تاريخية، ومنذ بداية الغزو الصهيوني المعاصر برزت هذه الخصوصية بوضوح عبر الاهمية التي اولاها لها طرفا الصراع، جاءت تلك الخصوصية من اكتساب القدس لأهمية دينية وتاريخية عند طرفي الصراع اليهودي الصهيوني/الفلسطيني العربي الاسلامي.
وقد شكلت منذ البداية هدفاً إستيطانياً مركزياً عند الحركة الصهيونية في المرحلة الاولى حملت عملية الاستيطان شكل التسلل بدوافع دينية واقتصادية وسياسية. كان ذلك اثناء الحكم العثماني، وتركزت اكثر عمليات التسلل على القدس، لتشكل من هذا التسلل فيما بعد مرتكزاً للعمل الصهيوني في مرحلة الاحتلال البريطاني، هذا الاحتلال الذي فتح الباب أمام هجرات استيطانية واسعة الى فلسطين ادت الى تعزيز الوجود اليهودي في القدس وحولها، عبر تسهيلات مدروسة هيّأت لقيام الكيان الصهيوني فيما بعد عام 1948.
والاستيطان هو عملية إستيلاء على الارض واحلال سكان مجلوبين من الخارج مكان اهل البلاد الاصلاء، وهو في حال الاستيطاني الصهيوني (الاحلالي) شهد عملية تسابق للسيطرة على الارض نظراً لأهميتها في تحقيق الهدف الصهيوني، على اعتبار ان تقرير مصير الارض يتم عبر فرض الامر الواقع الاستيطاني عليها، وقد كانت هناك مناطق إستيطانية مختارة ومميزة من حيث الاهمية تأكيداً لاعتبارات دينية، وتاريخية قومية وأمنية ، وهي الاشكال الذي يتذرع بها المحتلون الصهاينة للاستيلاء على المزيد من الاراض.
ولقد شكل الصراع للاستيطان في القدس وحولها ابرز ملامح الاستيطان الديني والتاريخي معاً. نظراً لاهمية، ومركزية القدس في الفكر والتاريخ الصهيوني.
القدس في الفكر الصهيوني: بقيت فكرة العودة الى ارض الميعاد، حاضرة في العقل الجمعي ليهود الشتات الى ان جاءت الحركة الصهيونية المعاصرة وأعادت صياغة ذلك المفهوم، بشكل سياسي معاصر ادت ترجمته الى قيام الكيان الصهيوني الحالي.
وقد امتلأت اسفار التوراة والتلمود بفكرة العودة الى أرض الميعاد، وانها ستحقق في الارض المقدسة على يد (المخلص) الذي يقوم بجمع يهود الشتات والعودة بهم الى ارض الميعاد واتخاذ القدس (اورشليم)، عاصمة له ويعيد بناء الهيكل فيها.
لهذا أخذت القدس بعداً مركزياً في الخطاب الصهيوني لحشد الانصار من اوساط الجاليات اليهودية في الشتات وتوجيههم للهجرة الى فلسطين.
دائرة المعارف (Jewish Encyclopedia)(1)، بدورها شرحت معنى الصهيونية فقالت: «ان اليهود يبغون ان يحزموا أمرهم وأن يأتوا للقدس ويتغلبوا على قوة الاعداء، وأن يعيدو العبادة الى الهيكل مكان المسجد الاقصى، ويقيموا ملكهم هناك»(2).
ومؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل، يقول حول أهمية القدس، في مذكراته: «اريد أن اطرد الباعة والقذارة التي تدنس القدس... محترماً كل حجر فيها»(3) .
وقد كشف الوزير البريطاني (في الثلاثينات من هذا القرن) اليهودي (اللورد ميلشيت) أهداف الصهيونية بقوله: «ان يوم اعادة بناء هيكل سليمان قد إقترب وسأصرف بقية حياتي في السعي الى اعادة بناء الهيكل على أنقاض المسجد الاقصى»(4).
اما القادة الاحدث عهداً من الصهاينة فأكدوا بعد احتلال جزء من القدس 1948، رفض مخططات الامم المتحدة لتدويلها، في 25/12/1949، حيث أعلن ديفيد بن غوريون رئيس اول حكومة صهيونية أمام الكنيست: «ان القدس اليهودية هي جزء عضوي وغير منفصل لتاريخ وديانة وروح شعبنا، ان القدس هي القلب الذاتي لدولة اسرائيل .. ان علاقتنا اليوم مع القدس لا تقل ابداً عن عمق تلك العلاقات التي كانت موجودة ايام (نبوخذ نصر، وتينوس فلافيوس) .. اننا نعلن ان اسرائيل لن تتخلى بشكل إداري عن القدس، تماماً كما لم تتخل خلال آلاف السنين عن ايمانها وهويتها الوطنية وأملها بالعودة الى القدس الصهيونية، رغم الاضطهاد الذي لم يكن له مثيل في التاريخ ... ان الشعب الذي استطاع منذ (2500) سنة الوفاء بالقسم الذي اداه المنفيون الاوائل على انهار بابل بعدم نسيان القدس، هذا الشعب لن يحمل نفسه على الانفصال عن القدس»(5).
وبعد عام 1967 بعد استكمال احتلال الاجزاء الشرقية من مدينة القدس، يعلن بن غوريون في 7/6/1967 «لا معنى لاسرائيل بدون القدس ولا معنى للقدس بدون الهيكل..»(6)
اما وزير الاديان في ذلك الوقت / زايراح فيرهافيتغ، فقد صرح أمام اجتماع حاخامي 12/8/1967 قائلاً: «تحرير القدس وضع جميع المقدسات المسيحية فيها وقسماً من المقدسات الاسلامية تحت سلطة اسرائيل، واعاد لليهود وجميع مقدساتهم فيها.. الحرم الشريف القدسي هو قدس الاقداس بالنسبة لليهود.. وهو مقدس لدى ديانة أخرى، وحالياً جميل ارجاء فكرة بناء الهيكل»(7)
وجدت الحكومة الاسرائيلية الحالية تلك الروحية، في قرارها بمناسبة الاحتفال بالسنة الالفية الثالثة لاورشليم (مدينة داود)، ايلول / ديسمبر 1996 فقد جاء في ذلك القرار «ان الاحتفالات ستكرس مدينة اورشليم كقلب للامة اليهودية في الوعي الجماعي لاسرائيل.. وسوف تحسّن من وضع صورة المدينة كعاصمة لدولة اسرائيل... ان مدينة اورشليم هي الشهادة التاريخية الحقيقية للديانة اليهودية وإرثها القديم من ناحية، كما انها تعتبر بمثابة رمز الاستقلال والسيادة المطلقة للشعب اليهودي من ناحية أخرى»(8)
الممارسات الاستيطانية
- الاستيطان قبل 1967 بتدفق الدعم المالي للمشروع الصهيوني، وبالرعاية الخاصة من سلطات الانتداب، سعت الاوساط الاستيطانية الى حشد وتركيز اكبر عدد من المؤسسات الصهيونية في مدينة القدس، وشكلت مركزاً للعديد من تلك المؤسسات أهمها:-
1- اللجنة التنفيذية للحركة الصهيونية العالمية
2- الوكالة اليهودية
3- الصندوق التأسيسي
4- الصندوق القومي اليهودي
5- المجلس الوطني لليشوف (الاستيطان)
6- مركز الحاخامية الرئيسية
7- الجامعة العبرية
. . . . . الخ. (9)
وقام الصهاينة باقامة عدة احياء يهودية في القدس وحولها، حتى عام 1948، وقد توسعت القدس بسبب ذلك وسنت سلطات الانتداب انظمة جديدة للقدس لتشمل تلك الاحياء الجديدة خاصة في الجزء الغربي من المدينة عبر توسيع الحدود البلدية للمدينة، كانت الغاية من إقامة تلك الاحياء تعزيز السيطرة اليهودية على المدينة ومحاصرتها، ومع نشوب الحرب 1948 خضعت المدينة للاحتلال باستثناء المدينة القديمة والجزء الشرقي من القدس حيث بقي بيد الاردن حتى عام 1967، حيث اكتمل احتلال المدينة بشطريها.
كما اسلفنا رفضت سلطات الاحتلال منذ البداية رؤية المجتمع الدولي للنظام الخاص بالقدس وواصلت رفضها لذلك وتأكد سيادتها عليها، وهذا الامر جددت تأكيده بضمها للجزء الشرقي من القدس الذي جرى احتلالها عام 1967، وسنت القوانين التي من شأنها تأكيد هذه الاهداف، التي تتمثل في اعتبار القدس الموحدة (عاصمة ابدية للكيان الصهيوني).
ونتيجة التركيز الاستيطاني اليهودي في القدس تزايد عدد اليهود باستمرار سنوات الهجرة حسب الجدول التالي:-
سكان المدينة | يهود | العام |
- | 14.000 | 1887 |
45.000 | 20.000 | 1890 |
- | 50.000 | 1897 |
- | 40.000 | 1904 |
بدأت الدولة العثمانية بفرض قيود على الهجرة | 80.000 | 1908 |
وفي عام 1910 توزع اليهود في فلسطين على الشكل التالي:-في القدس | 60% |
في يافا، صفد، طبريا، الخليل | 25% |
في المستوطنات | 15% |
وكان سكان القدس في ذلك التاريخ 90.000 الف نسمة وانخفض العدد الى 50.000 نسمة سنة 1917 بسبب هجرة اليهود الى مصر اثناء الحرب العالمية الاولى. ثم عاد التواجد للارتفاع:- السكان | العام |
61.000 | 1920 |
157.000 | 1940 |
164.000 | 1947 |
وقد استغل اليهود التسهيلات الممنوحة من الانتداب، للسيطرة على المجلس المحلي للمدينة، وذلك بزيادة عددهم فيها.(10) وفي الخطة الهيكلية الاولى 1918، منع البناء في المناطق المحيطة بالمدينة القديمة، ووضعت القيود على البناء في القسم الشرقي من المدينة (يسكنه الفلسطينيون)، اما القسم الغربي، فقد اعتبر مناطق تطوير وهو الذي تركز فيه الاستيطان اليهودي اضافة الى شمال شرق المدينة حيث اقيمت الجامعة العبرية ومستشفى هداسا الجامعي. وقد ساهم المخطط الهيكلي في تنفيذ المشروع اليهودي بالسيطرة على المدينة عبر تعزيز الوجود اليهود واحكام تطويقها بالاحياء اليهودية وساهم ذلك في قلب الوضع الديمغرافي لصالح اليهود، بحيث اصبح اليهود عام 1947 كالتالي: | البلدة القديمة | البلدة الجديدة (غرب المدينة) |
سكان القدس | فلسطينيون | يهود | فلسطينيون | يهود |
164.500 | 63.600 | 11.200 | 1.500 | 88.000 |
وبذلك شكل الفلسطينيون 85% من سكان المدينة القديمة، مقابل 60% نسبة اليهود في كامل القدس بكل ضواحيها.(11) وقد سيطر الاحتلال بانتهاء حرب 1948 على 80% من مساحة المدينة وهجر حوالي 60 الفاً من سكانها. ومن 1948 حتى 1967 استولت السلطات على الممتلكات الفلسطينية واستوعبت اعداد هائلة من المستوطنين.
- الاستيطان بعد 1967
فور احتلالها للاجزاء الشرقية من مدينة القدس، شرعت في اتخاذ الاجراءات الفورية في عملية تهويد بقية اجزاء القدس عبر الاسراع في وتيرة المخططات الاستيطانية، ففي البداية أعلنت سلطات الاحتلال في 28/6/1967 توسيع حدود بلدية القدس واعلانها موحدة، وذلك بعد يوم واحد من تفويض الكنيست (البرلمان) للحكومة بسط قانون الدولة وقضائها وادارتها على أي جزء من ارض اسرائيل. ومنذ ذلك التاريخ شرعت الادارة الصهيونية في عمليات المصادرة، والاستيلاء على الاراضي، وبناء المستوطنات، ونقل اعداد كبيرة من السكان اليهود الى القدس الشرقية، وعملت على محاصرة الاحياء الفلسطينية ومصادرة الاراضي من حولها لمنعها من التوسع، واعتبار كل الاراضي المصادرة احتياطي لعمليات الاستيطان، بحيث أصبح الوضع الراهن كالآتي:-
كانت مساحة القدس الشرقية عام 1967 6.5كلم2 بعد 1967 70.5كلم2.
اليهود في القدس الشرقية عام 1967 كانوا صفراً أصبحوا الاغلبية في الشطر الشرقي للمدينة بحيث زادوا على 160.000 الف نسمة، وبهذا صنعت سلطات الاحتلال واقعاً جغرافياً وسكانياً جديداً واستمر الصراع على مساحات الارض الباقية.(12)
وقد عمدت سلطات الاحتلال للوصول الى النتائج أعلاه عبر اعتمادهاسلسلة من الاجراءات لتحقيق أهداف التهويد التاريخي:-
وعملت في الحلقة الاولى للاستيطان فيما عرف بالطوق الاول، وهو من الاعمال الاولى التي قامت بها وذلك بالاستيطان داخل المدينة القديمة، لربط الشطر الغربي بالشرقي، وقد شمل ذلك الاستيطان في:
(1) الحي اليهودي، باعادة اعماره وتوسيعه بالسيطرة على احياء جديدة وتهجير سكانها، وهذه الاحياء حي المغاربة، باب الشرف، باب السلسلة، حي الباشورة، واصبحت كلها جزء من الحي اليهودي الذي شمل (320) وحدة سكنية وكنيساً وسوقاً تجارياً.
(2) اقامة حديقة وطنية على حساب الاحياء المحيطة بسور القدس شرقاً وجنوباً.
(3) اقامة مركز تجاري على الجهتين الشمالية والغربية من البلدة القديمة على حساب أحياء باب الساهرة، باب العمود، الشيخ جراح ... وتهجير سكانها لتخفيض الوجود الفلسطيني لصالح الوجود اليهودي في المدينة.(13)
الطوق الثاني:
عبارة عن مجموعة احياء داخل أمانة القدس، هدفه عزل مدينة القدس عن التجمعات الفلسطينية من الشمال والشرق والجنوب، ودمج القدس الشرقية بالوجود اليهودي بالجزء الغربي، واخراجها من اطار الضفة الغربية، وقطع اتصال الاحياء الفلسطينية في القدس بالقرى المجاورة والحد من نمو هذه الاحياء القليلة المتبقية داخل مدينة القدس.
الى جانب ذلك يشكل هذا الطوق طوقاً أمنياً يحيط المدينة، عبر الابنية الضخمة الذي إمتاز بها، ويشمل هذا الطوق على الاحياء التالية:-يتبع