أسعَد أحمد عَلي
مَعرفَة الله
وَالمكزون السنجّاري
المجلد الأول
دار السؤال للنشر
4
الطبعة الخامسة معدله
1417هـ ـ 1996م
رقم الكتاب: 3
دار السؤال للنشر
شارع16 تشرين ـ حي الجامعة رقم1 ابن الهيثم(البعث الأول) بناء رقم4
هاتف: 412 763 ـ 422485 ـ فاكس: 422485 /41 / 00963
ص.ب: 760 اللاذقية ـ سورية
ص.ب:9025 دمشق ـ سورية
5
بسم الله الرحمن الرحيم
وَاتّقُوا اللهَ ويُعلّمكُم اللهُ
,, قرآن كريم ,,
إلى الرحمنِ نِسبَةُ كـلِّ عَبدٍ ظهورُ صفاتِهِ الحُسنى عَليهِ
وَيعرفُ مالَهُ في الغَيبِ منه برؤيـَةِ ما لمَولاه لَدَيـهِ..
و دَعوتـي جَامِعَـةٌ للـوَرى يَدعو بِهَا المؤمنُ والكافرُ..
أغبى الوَرى مَن لَم يجدْ نفسَهُ تخصُّهُ إلا بـرأيِ العَوام
وأبعَدُ الخلق عَن الحَقِّ مـَن يحاولُ الحَقَّ بعلم الكَلام
بـَلْ باقتِفا البَاطنِ من ظاهرٍ أَنزلَـهُ اللهُ هُـدىً للأنام
المـكزون السنجَـاري
6
ملاحظة
صدر كتاب: روضات معرفة الله و القيم النقدية.
و هو مجمل الآراء و المناقشات التي وصلتنا حول كتاب معرفة الله و المكزون
السنجاري و فيه وثائق بخصوص أصحابها.
7
فهرس مُجمَل لمحتويات المجلدين
محتويات المجلد الأول
مقدمة الطبعة الرابعة: شيوخ دمشق و جامعة للورى 9
مقدمة الطبعة الحديثة(الطبعة الثالثة) 13
المقدمة و الغاية
الباب الأول: منهج لمعرفة الله (33-196/163ص )
تمهيد منهجي 35
الفصل الأول: منهج المكزون 45
الفصل الثاني:أهمية اليقين المنهجي 61
الفصل الثالث:هل القرآن كتاب المنهج ..؟ 77
الفصل الرابع:أسلم المناهج أو الطرق سنة لا تقبل النسخ 109
إجمال في المنهج أو خاتمة 189
الباب الثاني: معرفة الله(197-485/261ص )
تمهيد منهجي 199
الفصل الأول : مدخل إلى نظرية المعرفة 203
الفصل الثاني:سماء المعرفة و المسالك إليها 61
الفصل الثالث:هجرة المكزون إلى المعرفة أو القدمية 251
الفصل الرابع:الوصول إلى معرفة الله 287
إجمال في المعرفة أو خاتمة 448
8
الباب الثالث: المكزون السنجاري
حياته , و بيئته و عصره (459-515/56 ص )
تمهيد منهجي 461
الفصل الأول مصادر و مراجع 465
الفصل الثاني:سيرة المكزون السنجاري 479
الفصل الثالث:بيئة المكزون و عصره 501
محتويات المجلد الثاني
الباب الرابع: شعر المكزون و نثره و أخباره ((3-370/367 ص ))
تمهيد أو نصوص و اقتراح 7
الفصل الأول شعر المكزون(ديوانه) 11
الفصل الثاني:نثر المكزون(رسالته) 257
الفصل الثالث:أخبار المكزون 305
الفصل الرابع: فهرسان للتعليقات و الشروح
و مواضع الخلاف بين نسخ الديوان 355و371
الفهارس 375
1- فهرس سور القرآن المعتمدة في الدراسة و المقارنة 377
2- فهرس القوافي,والأبحر , و عناوين النصوص 380
3- فهرس المصادر و المراجع 402
4- فهرس آثار المكزون و ما يتعلق بها و نماذج من نسخها 426
5- فهرس عام للمصطلحات و الأعلام 435
6- فهرس مفصل لمحتويات المجلدين 438
9
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة: الطبعة الرابعة
شيوخُ دمشق
و
جامعة للورى
10
ـ1 ـ
مرة واحدةً : قابلني ابنُ ((عرب)) ، المسمَّى باسم نبيِّهم ((محمد)) ..
الصلاة والسلام على المصطفى و الأنبياء من صالح بني آدم ..
لكنَّ هذا العزيز الملتقي : نقل ((تاريخ أخلاق الطريقة)) من علاقة شيوخ
دمشق الملهمين بالمكزون السنجاري ومعرفة الله ..
ـ 2 ـ
خلاصة المنقول : أن شيخه النقيَّ الفاضلَ قد قرأ معه ((الفتوحات
المكية .. وفصوص الحكم .. ثم رسائل ابن عربي)) .. وكان لا يبيح له قراءة
المعلِّقين على آثاره ، أمثال ((أبي العلا عفيفي)) ، الذي شرح فصوص الحكم ..
لكنه بعد إتمام القراءة والتدريب على آثار الشيخ الأكبر : أعطاه ((معرفة الله
والمكزون السنجاري)) .. وكلفه بقراءتها .. واستوعب هذا المريد : إشارة
شيخه الدمشقي الجليل .. وعاش مع صاحب معرفة الله ، وقتاً طيباً على مستوى
الوعي الجديد .. مما جعله يبحث عن كاتب هذا المستوى ، متخيلاً أنه سيرى
عِمَّةً ومباركةً وزيّاً مميَّزاً .. ولحسن الحظ : أنه رآني بزيٍّ عادي جداً .. بل أقل
من عادي .. وبعد استغرابٍ أوليٍّ : تحرَّرَ من أوهام الشكل .. وفهم قلبانا ..
بل تفاهما على مستوى الحرية في ذرى المعرفة وروضاتها ..
ـ3 ـ
أما خلاصة المعقول : فتومئ إلى إخلاص أهل الذوق للحق .. وإلى
تحققهم في قُطْبِيَّةِ الوحدة مع الدوران في آفاق الآيات الكونية والنفسية .. وإلى
11
إعطاء كل ذي حق حقَّه ... وأرجو ألا يؤاخذني هذا العارف الفاضل : إذا
اتجهتُ إليه من القلب بتقدير الحب ؛ ولن أذكر اسمَه الجميل : لأنه مذاب في
أضواء المعنى ذوبان الأشعة في الثلج الذي صار ينبوعاً يترقرق بالصفاء؛ ليكون
للطبيعة والإنسان : نماءً وارتواءً .. ولأنه يمثل كراماً عارفين من شيوخ دمشق ،
الذين يعيشون في حدائق قلبي .. وأحياناً يتمشون على عمائم كلماتي : كما
حصل منذ احتفال المولد النبوي في ((جامع السادات)) بتاريخ, [ 1994/8/31]
الموافق برزخ القمر بين ربيعي [ 1415 ] ..
ـ 4 ـ
لقد صورت إحدى هذه النزهات لكرام محبين ، جمعتهم ((السنقالين))
لوداع العارف الأمين ، ((أبي حسن ، علي حسن صالح)) ، الذي كان عَمَّاً يُسلَِكُ
على رحلة ((اللَّفَّةِ)) بين فعل [ داس ] وقلبه [ ساد ] .. كان بآلاف الصور : يبرهن
الوحدة .. ولم يكن يعرف ألسنة اللغويين .. لكن مثاله المشعَّ : كان يخترق
أصوات الألسنة المختلفة ؛ ليؤكد وحدانية الغرض وتعاونية الكثرة للتحقق بتلك
الوحدانية ..
لقد : بحتُ لجماهير ((السنقالين)) بثلاث كلمات من الشيخ ((علي
الحسن)) .. [اللفة .. الْفَرَسْ .. البدوي] .. كما بحتُ لهم بأربعة أبيات
تصور نزهة شيوخ دمشق على عمائم الكلمات .. فهل نَبوح لقراء الطبعة الرابعة
من ((معرفة الله والمكزون السنجاري)) : بمثلث الكلمات ومربع الأبيات ؟
12
ـ 5 ـ
أما الكلمات الثلاث : فتذاع مع نظرية ((الصوت العربي المبين في لغات
العالمين)) .. وتباعاً نراها في النشرة الصادرة عن [مجمع نهج البلاغة العالمية]
باسم [صوت أم اللغات] ..
ـ 6 ـ
وأما الأبيات الأربعة : فقد نشرت في القصيدة المكتوبة بالمسك الخفي
على أحوال القلوب .. وهي :
شيوخُ دمشقَ الملهَمُون مَجَرَّةً من الخُلُقِ الأرقى تصوغُ سلاميا
فَتَبْعَثُ إحسانَ الشهود بخاطري وتُمْسِكُ عِرْفَانَ الوجودِ الأقاصيا
رَوَاسٍ من الأبرارِ.. لُبُّ رؤوسِهم محبَّةُ ذي الحسنى تُقدِّسُ راسيا ..
وأبعثُ أبرارَ الشآم تراجمي يُقيمون للكونِ الجديد المبانيا ..!
ـ 7 ـ
إنَّ التَّرَجُّعَ بينَ هاتَينِ الخُلاصَتين : يُكسِبُ المُتَرجِّعُ ، معَ الأيَّامِ ، شَرفَ الانتساب إلى [جَامِعةِ الورى] ، التي أعطى عنوانها وشروط الانتساب إليها:
ذلك العارف القديم ، المكزون السنجاري ، الذي يقول :
ودعـوتـي جامـعـة لـلورى يدعو بها المؤمِنُ و الكافـِر ..
13
ـ 8 ـ
جامعة الورى : انفتاحٌ على الكائن والذي يكون ؛ لأن ((الورى)) : اسم
للأنام ؛ لكنه مُحرَّرٌ من تقسيماتهم .. ولهذا كانت الجامعة : صفةً تُنبئ عن
موصوف الدعوة . . وكان الداعيان من تلك الجامعة ؛ المؤمن الذي أُلهِم
التقوى .. والكافر الذي ألهم الفجور ؛ كما تفصِّل سورة ((الشمس)) القرآنية ..
[ ونفس وما سوَّاها ..
فألهمها فجورها وتقواها
قد أفلح من زكَّاها
وقد خاب من دسَّاها .. ]
ـ 9 ـ
إن الإلهام : يعني الإضاءةَ التي تُمَكِّنُ من التمييز بين التقوى و الفجور..
ولا تُلْزِمُ على سبيل الإكراه.. بل تترك حرية الاختيار, و تُبَصِّرُ بأنواع الثمار... فالذين يختارون التقوى:يُزَكوُّنَ أنفسَهم و فق أصول التزكية.. و يجنون ثمار التزكية:الفلاح .. وما أدراك ما الفلاح ؟ و الذين يختارون الفجور: يُدَسُّن أنفسهم كمن يئد ابنته الجميلة.. و يقطفون شوك هذه التدسية..الهلاك.. وما أدراك ما الهلاك؟
14
-10-
الفالحون: سُعداء بالجنَّةِ..
و الهالكون:أشقياءُ بالنار..
فإلى أية كلية من كليات (( جامعة الورى)) : ينتسب المنتسبون؟!
إن للجنة: دعاتها .. و للنار: دعاتها .. و قصة ابني آدم : شهيرة عند بني آدم.. فمن لا يعرف قصة (هابيل و قابيل)؟!
لذلك يجتهد المعلمون الأبرار : لإصلاح ذات البين بين الفاجر و التقي.. وهل تضيع جهود المجاهدين سُدىً؟!
-11-
إن مجلَّدي ((معرفة الله و المكزون السنجاري)) : موسم من مواسم اجتهادي المتواضع ليكون السلام الموحِّد بين تناقضات الأنام.. و قد صرَّح غير العربيِّ : بما صرح به ابن العرب .. و في [ روضات معرفة الله و المكزون السنجاري] : مثل[مجمع معرفة و محبَّة] .. أعضاؤه: نماذج عالمية ؛ منهم : شيوخ دمشق و تلامذة ابن عربي في أمريكا و أسيا و أوروبا..
ـ12 ـ
إن أوصاف ابن عربي في رسالة ((السيد الخميني)) للرئيس ((كورباتشيف)) : شهيرة في عالم السياسة والمعرفة .. وأما أوصافه في الغرب : فتذيعها نشاطات كثيرة كالتي يقوم بها ((كبير هلمنسكي)) مترجم ((السعادة
15
بلا موت)) ومنابعها القرآنية .. وفي رسائله الحديثة جداً : خلاصة مجدَّدة لتاريخ
أخلاق الطريقة . .
وحبذا التأمل بملاحظاته على كتاب [ميشيل تشوديكوتز] حول طريقة ابن عربي
وطريقتنا .. وضعت الرسالة بالعربية والإنكليزية في [سبيل الأذكياء إلى جنان
السعداء] من شرحنا العصري لنهج البلاغة .. [مجلد 4/ص 64 و0] ..
ـ 13 ـ
إن حديث ((جامعة الورى)) : مفصَّلٌ في ((رسائل القارات)) ، التي نعدُّ منها
((ألف رسالة ورسالة)) بخطوط أصحابها ولغاتهم .. فلتقرأ مقدمة الطبعة السابقة
لهذه الطبعة .. وليقرأ في ((السبر الأدبي)) ما قيل في ثلاثة عشر بيتاً ، تصف ((ربة الحجب)) :
لَبَّيْتُ لمـا دَعَتْني ربَّةُ الحُجُبِ وغِبْتُ عني بها من شِدَّة الطَّرَبِ
في كلِّ حيٍّ لها حيٌّ تطوفُ به من المحبين أهل الصدق والكذب..
ـ 14 ـ
مرة أخرى : ((جامعة الورى)) .. والدعوة فيها : جامعة بين أهل الصدق
والكذب .. وليست الذبابة كالنحلة : ولو طارتا معاً وغنَّتا معاً ؛ لأن الثمار :
تُميِّزُ بين النحلة التي تحمل الشفاءَ .. وبين الذبابة التي تحمل الداء .. ومن
ثمارهم تعرفونهم : يقول ابن العذراء ..
16
ـ 15 ـ
فماذا يقول في عصرنا الأذكياء ؟
بل ماذا يقول الأغبياء ؟
ـ 16 ـ
سَنَسْمَعُ ونُسْمِعُ : هؤلاء وهؤلاء .. ونصبر إلى ما يشاء بديع الأرض
و السماء .. فهو الربُّ والحَسْبُ ..!
أفقر الفقراء إليه تعالى
أسعد علي
دمشق الجديدة 7 /4 / 1415
12 / 9 / 1994
1
بسمِ الحَيِ الذي لا يموت
مقدِّمة الطَّبعة الحديثة
هذا الَّذي يتَّفقونَ عَليه !
مَن هوَ هذا الَّذي يتَّفقونَ عَليه ؟
أ ـ إنَّهُ النَّاطِق باسم الرَّمزييِّنَ جَميعاً ؛ كما يَقولُ صَاحِب (( دِراسات فَنِّيَّة في الأدب العربي)) ...
ب ـ وهوَ اليَقِظْ بينَ الرُّقود ؛ كما يقول صَاحِب ((الماسونيَّة في العَراء)) ..
ج ـ ويراهُ صَاحِب ((إسلام بلا مذاهِب)) : ذا مَنهَجٍ مُتَسامٍ ((إنْ لم يَكُن جِزءاً مِن سَجِيَّتِهِ ، فهُوَ يُمَثِّلُ حدود طَريقَتِهِ)) التي يَصِفُها بالسَّماحَةِ والشَّفافِيَة ...
د ـ أمّا المُقَرِّرون الأكاديميُّون : فقَد رأوهُ عَارِفاً كبيراً وشَاعِراً مجيداً مِن أعلام التُّراث العَرَبي الإسلامِي الزَّاخِر ، كَما قَدَّمَتهُ مَعرِفَة اللَّه والمَكزون السِّنجارِي بِمُجَلَّديها ..
هـ ـ وبهذين المُجَلَّدين رَأى المُستشرِق الفَرَنسي ، الأب ((ميشال الأرد)) ثَمرَة اللِّقاء بينَ عَالَمَي المَسيحيَّة والإسلام وبينَ العَالَم العَربِي وأوروبا ..
وهوَ مُؤثِّر على نُفوس الشُّيوخ والشَّباب والأمَّهات والبَنات .. ويُمكِن الانتقال إلى ((رَوضَات الآراء والقِيَم النَّقديَّة)) التي اختيرَت ممَّا وَصَلَنا مِن قُرَّاء ((معرِفَة اللَّه والمَكزون السِّنجارِي))
2
تقول طالبة جامعية من جامعة دمشق ، ((لقد زودني المكزون السنجاري : بعين ثالثة ؛ لولاها لما أبصرت ؛ منه فقط : شعرت وأحسست بقول ميخائيل نعيمة ، ((عناصر الكون أربعة : م ، ح ، ب ، ة ، يجمعها العنصر الفرد أنا)) ..
وبعدما رأيت الجنة على أرجوحته : لم أقدر أن أعيش دون جنة .. أريد أن أصل إلى يوم أحب فيه الله بكل ذرة من كياني ، دون رغبة أو رهبة ، فيصبح على لساني دائماً قوله :
أحبك حباً جاوز الحب بعضه وفي طول عمري ليس يمكن عرضه
ويقول أستاذ إعداد المعلمين في جامعة بيروت العربية :
((كنت وملايين المسلمين نجهله ، قبل سماع تلك المقدمة المشعّة .. والتي شدتني بفكري وجوارحي وأعصابي إلى سيل مشعٍّ كان يتطاير من فمك معرِّفاً بذلك العارف بالله العتيق ((المكزون السنجاري)) ... لقد تقاطرت على جنبات أفكارها دنيا من الإيمان ، كادت تفتح مني البصيرة ،وتزيل عن قلبي بعض الحجب : لأرى الله جهرة ، متجسداً بإيمان المكزون ، الذي شرح مني النفس ، وحرك القلب ، بشكل شعرت معه أن العقل بشكوكه . قد تضاءل أمام حقائق إيمانية ، إذا وضحت خاب كل عقل وولي عن التشكيك المعتاد فيها)) ...
يوشك مربي المعلمين الأستاذ عبد الحميد فايد : أن يجتذبني لأنقل إلى هذه المقدمة جميع ما كتبه بعنوان ((أثر المعنى)) .. والأولى أن ينتقل القارئ إلى ما سمِّي مجلداً ثالثاً ، وهو عبارة عن جُمَلٍ من الآراء المنبثقة عن ((معرفة الله والمكزون السنجاري)) ..
أعتبر تلك الآراء ((روضات لمعرفة الله)) . وقيماً للنقد الأدبي والمعرفي والحيوي معاً ..
وأرجو أن يكمل القارئ ما بدأه عبد الحميد فايد : ليتأكد عملياً من هذا الاعتبار فقد عرف كيفية حصول الإيمان في القلب ؛ وقال أنه (( تمثل له في تلك الجلسة حول كلمات المكزون الموحية ، التي رأى فيها تجديداً لإسلامه وإسلام كل مؤمن حائر ، ترتاح نفسه إلى مثل نورانية السنجاري الخارقة ... فطوبى
3
للسنجاري خلوص نفسه لمعرفة الله وكمال إيمانه الصادر عنها صدور الأشعة عن النجم)) ..
لقد بشرني ((مربِّي المعلمين)) بمستقبل هذا العمل الذي سيضيء جنبات نفوس قرائه المتلهفين إلى تلك المعاني السامية وسيفتح صدور أجيالنا الحاضرة والآتية للإيمان الحق من جديد لكي لا ينساها الله من رحمته)) ..
إن سعادتي بتحقق هذه البشارة وأخواتها لا توصف ؛ لأن ذلك تحقق بشهادات أصحابه في أكثر من قارة .. ولأنني أحبُّ فصول السعادة للآخرين : أقدم لطالبيها ((مختارات من روضات الآراء والقيم النقدية حول معرفة الله والمكزون)) في ((المجلد الثالث)) الذي أعتبره ((مقدمة هذه الطيعة الدمشقية الأولى)) ؛ بل أعتبر كل ((روضة)) خيراً من مقدمة ..
كتبتُ في الخامس عشر من شعبان 1410 ، مهنئاً عزيزاً من المتصلين بهذا الذي يتفق عليه الجميع :
[((لقد أحدثت نظريته تحولات في نظرية المعرفة)) ، وضعت في ((السبر الأدبي)) نماذج منها .. وأظن التأمل في ((روضات الآراء)) هذه يفيد المتأملين ، قطرِّياً وقومياً وعالمياً .. وفق عزائم الترجمة ..
نقل عن فقهاء السياسة البريطانية قول مؤداه :
((نحن نتخلى عن شبه قارة الهند الكبرى .. ولا نتخلى عن شكسبير)) ..
وعندما نعتبر ما قيل في الغرب والشرق عن ((معرفة الله والمكزون السنجاري)) : نشعر حالاً أن مكزوننا ((أعظم من قارة كبرى)) ورأي المستشرق الفرنسي الار : يجعل من هذه النظرية طموح الحوار بين أوروبا والعرب وبين الإسلام والمسيحية .. ومحمد علي الزعبي : يعتبره يقظاً عالمياً بين رقود ..
هذه روضات من جدّك القائل : ودعوتي جامعة للورى)) .. ]
إن المكزون يؤكد هذه الدعوة على مستويات متسعة في شعره ونثره .. وقد لبَّى دعوته ملبون من أجيال مختلفة .. نماذج تلبياتهم فيما اختير لروضات معرفة الله وقيمها النقدية))
4
قال لي شيخ طريقة جليل من حلب :
لقد رأيت المكزون مرَّةً يملأ الفضاءَ .. يا للروعة )) .. !
وما تفصِّل به مبتدئة جامعية ((يؤكد لقاءَ الجميع تحت ظلٍّ وارفٍ مديد . تقول في وصف رحلتها على أرجوحة المكزون .
((لقد فاق ارتفاع أرجوحته كل خيال .. فرفعني خطواتٍ وخطوات .. وفي أعلى ارتفاع : عرفت نفسي .. عرفت من أنا ؟ .. أنا ..
من ركب أرجوحة المكزون السنجاري مثلما ركبتها : سيعرف قصدي ويفهمني .. ومن لم يركب هذه الأرجوحة : سيتهمني بالغموض ... ومن أين له أن يفهمني : فهو في واد وأنا في واد)) ؟ !
فـاعلُ عـلى أرجـوحتي مكلَّلا تصبح في بيضاء صيني مبتكر ... !))
إن الدعوة مفتوحة لكل من يُلبيها ؛ وكما يقول صاحُبها :
وكلُّ صب تهوَّاها و جاءَ ببرهانٍ على حبّ ليلى : فهو ابن أبي
ويقول أيضاً :
أمي الشريعـة والمقيم لهـا أبي وبنـو أبيها كلهم إخواني ..
ولنشرُفَ بهذه الأخوَّة : ندخل إلى أقواله مباشرة .. أو الأقوال التي شرحت أقواله بصورة مؤثرة .. أو إلى أقوال المتأثرين به .
وأرجو غَضَّ الطرف والتسامح كلما وجد القارئ حاجة لبذل عفوه ورحابة حبِّه ، لأنَّ القصد من اجتهادنا وجهادنا : معرفة الله والتعريف إليها وبها ((وما خطرت لنا فكرة التنافس مع شخص واحد)) كما يقول المكزون . فهل يُعقَل أن تكون المنافسة إلى المكزون نفسه ، كما كاشفني بمثل هذا الظن معلّق على ما ورد في : أثر الصورة)) لصاحب ((طريق الميثولوجيا عند العرب)) الشاعر والناقد والمعلم الفلسطيني ، محمود سليم الحوت))
وقد شطح بأصحاب هذا الظن قول الأستاذ الحوت :
((وإنني لواثق من أن هندستك الحديثة للمكزون .. ما كان يحلم بها حتى المكزون)) !! ..
5
وإنني أدفع عن صديقي الحوت : بالدعوة إلى قراءة ما كتبه قراءة كلية ؛ فللسياق دلالة حبية تعظم النبع الذي ألهم صورة الدراسة ..
ومن جهة أخرى (( أطمئن أصحاب مثل هذا الظن بأننا نحبُّ أن نكون
ترابا ، بل نطمح لنكون أكثر تواضعاً وتسامحاً من التراب ، على حد تعبير ((غاندي)) ، لأن طلاب الحقيقة لا يبلغونها إلاَّ بالتواضع ؛ فالغطرسة : حجاب ؛
والبراءة : اقتراب ..
ولحسن الحظ أن قراءنا من طبقات الأطباء والمهندسين والعسكريين والمشتغلين بغير الحذلقات البلاغية : لا يقفون عند حدود الكلمات ، بل يحلقون أو يغوصون باتجاه الحضرات التي نريدها وراء الكلمات ..
ومما يُسعد في هذا المجال : أنهم يكتبون من الجهة المقابلة ؛ كما ورد في رسالة طبيب جاءت من فرنسا ، يقول صاحبها الدكتور جورج : إن المكزون تفضل بالإضاءة لأحدث ما نقدمه للحداثة .
((لم أكن أعتبر نفسي مودّعاً لك ؛ لأنك حاضرٌ أبداً وفي البال تماماً ؛ وليس هذا غريباً : فأنت تطل من سطور مكزونك ، وتحضر بعض الحوارات الخاصة والمتخصصة ..
((تأخرت في مكاتبتي لك : لأنني كنت أؤثر أن أفرغ من رسالتك الفلسفية)) إلى ((البارقات)) .
وبالفعل وجدت مفتاح ((البارقات)) في قول المكزون :
متفلسف ، متصوف ، متسنن .. متشيِّـع ، ذو رغبة ، مـتزهد
لكنني لست متسرعاً .. ولأن الأمر فتح أموراً كثيرة)) ..
( 21 /3 /1988)
إنني أسأل الله قبول ((النية والحرف)) ((وأرجوه التفضل بمزيد من الفتوحات لقرَّاء معرفة الله)) وطلابها .
من أيِّ المداخل أقبلوا :
6
مدخل النص المكزوني ، الذي يجدونه أوسع في المجلَّد الثاني .
أو مدخل الدراسة التي أقيمت على النصوص الأصلية ، ويجدونه أوسع في المجلد الأول .
أو مدخل التأثير ، وهو تنوع متحد في المجلد الثالث .. وقد تكون كل روضةٍ من روضات الآراء صورة لوجه صاحبها المنار .. وعندئذ أستعير لكل وجه من تلك الوجوه أحدث صيغة تصور التأثر المرهف بالكلمات :
((وجهك كالنبع
كالضياء
إذا تدفقت في عروقه
دماء الحياة
أزهر الربيع على وجنتيك
وأنرت بكلماتك
مساحة حضور محبيك))
الثامن من رمضان 1410 هـ
دمشق ، الأحد الثالث من نيسان 1990 م
أسعد علي
7
المجـَلد الأول
الدراسـَة في ثلاثة أبـواب :
المنهـَج . المعـرفـة . الحَيـَاة
8
...
9
بسم الله الرحمن الرحيم
وَاتّقُوا اللهَ ويُعلّمكُم اللهُ
,, قرآن كريم ,,
إلى الرحمنِ نِسبَةُ كلِّ عَبدٍ ظهور ُصفاتِهِ الحُسنى عَليهِ
وَيعرفُ مالَهُ في الغَيبِ منه برؤيـَةِ ما لمَولاه لَدَيـهِ..
و دَعوتي جَامِعَـةٌ للوَرى يَدعو بِهَا المؤمنُ والكافرُ..
أغبى الوَرى مَن لَم يجدْ نفسَهُ تخصُّهُ إلا بـرأيِ العَوام
وأبعَد ُالخلق عَن الحَقِّ مـَن يحاولُ الحَقَّ بعلم الكَلام
بـَلْ باقتِفا البَاطنِ من ظاهرٍ أَنزلَـهُ اللهُ هُـدىً للأنام
المـكزون السنجَـاري
10
...
11
اعتراف وشكر وإهداء
المعرفةُ ارتفاعٌ واعترافٌ ؛
كما ترتفعُ الفروعُ من قلب الجذوع كذلك يَنهض البحثُ من ينابيع الخواطر ويتولّدُ من مقابَسات الضمائر ...
وكما تزمزمُ النحلة أخبار الأزاهير في كل الفصول ، وهي تصنعُ ما تَصنع ، كذلك يتغنّى وجدانُ الباحث بآيات الشكر الوفيِّ لكلِّ من مثّلوا أدوارَ الأزاهير وهي تجودُ بما ضمائرها من رحيقٍ يتعسّل فيَشفي ...
هذه الحقيقةُ ، تُلزمني ، لو شئتُ شرحَها ، حكايةَ كتابٍ آخرَ عمّن لقيتُهم وقصدتُهم من : أساتذة ، وعلماء ، وطلاَّبٍ ، وأصدقاء ، ومكتباتٍ ، ومؤسّسات ؛
لذلك أرمزُ إلى هذا العالَم الذي يعيش في صدري من نُعمياتِ هؤلاء الأصدقاء الذين تفضّلوا عليَّ وعلى بحثي ، من أي مكان كانوا ، وفي أي زمان جاؤوا ، وإلى أيّةِ أمّةٍ انتسبوا ...
وأوضحُ الرَّمزَ بالإشارة إلى المستشرق المستنير ، الأب ميشال الار ، فقد أشرف على هذه الدراسة ، وتعِبَ معي طوال خمس سنوات ونصف ، بما قرأ ولاحظ ونبّه حتى أخذت صورتَها الإخراجية المريحة .
وكذلك أعترفُ بفضلِ الحاج عبد الرحمن الخيِّر ، فقد اعتنى ببحثي واهتَّم له ، ومنه حصلتُ على أدعية المكزون ، وهو الذي أحضر لي نسخة الظاهرية ...
ولا أنسى فضل العرفانيِّ الأكبر المرحوم بديع الزَّمان فروزانفر ، الذي أشرف على رسالتي (( فن المنتجب العاني وعرفانه )) ؛ وعليها نلتُ لقب دكتور في الآداب ( قسم الأدب العربي ) 1967 م .
12
والعلماء الأجلاء ، في سورية ولبنان ، وفي بيئات : جامعة بيروت العربية ، والجامعة اللبنانية ، وجامعة بيروت الأمريكية والجامعة اليسوعية ...
والقيِّمون على مكتبات هذه الجامعات ، وعلى مكتبات المقاصد الخيرية الإسلامية ... هؤلاء فصول ربيعٍ معرفِّيٍ دائم الخضرة في قلبي ولساني ...
وطلاَّبي ، رعى الله طلاَّبي ، ونفعَ بهم ... فقد قرأتُ بعيونهم ما أغنى عيوني ، وهم يتطلّعون إلى الجديد المتجدِّد ، ويَصنعون عني ما يُوفِّر لي الوقتَ ، من جمعِ كتبٍ ، وعمل فهارس ، وملاحظاتٍ ، وغير ذلك ...
وأصدقاء آخرون ، شاركوني رحلةَ المعرفة ، وتعاونوا معي بصورةٍ صامتةٍ صابرة ، هؤلاء هم عمّال مَطبعتي : دار الفجر ، والريفييرا ، في بيروت . فأوجبَ عملُهم ذكر الشاكر للعمّال دورهم في الوجود ، وفضلَهم على المعرفة ...
وأخيراً ، لم يبقَ إلاَّ العودةُ إلى البيت ، فماذا في البيت ؟
أمٌّ وأبٌ : (( هذان في الدُّنيا هما الرُّحماء ... )) .
راعيتي السّاهرة عليَّ ومعي ... شهدتْ من مصاعب هذه الدراسة ما جعلَ قسطها من التحمُّلِ كبيراً : كنتُ أصومُ لأصل إلى المعرفة ، وكانت تصومُ مشارَكَةً لي ، ومحاولة للتخفيف عنِّي ... أمِّي الروحُ المعايشةُ لي في لبنان ، منذ جئت لبنان ، من عشر سنوات .. تُضيف إلى ديون الأمومة ِ التي لا تُوفى بغير الوفاء ، ديوناً معرفيةً أخرى ، لا يُساويها شيءٌ غيرُ الاعتراف بالفضل والشكر ورجاء الله أن يتولاَّها عنِّي ، وعن أخوتي وتلاميذي ، بالثواب على ما صبرتْ وتصبر ...
وأبي ، رحم الله أبي ، فقد ذكرتُ طرفاً من علاقته بهذه الدراسة وفضلِه عليَّ وعليها ( في المقدّمة ، ص : 15 ) من أربعة عشر عاماً ...
لذلك ، وقد حالتِ الأسبابُ بيننا ، ولم يعد بإمكاني أن أتَّجه إلى غير روحه ... أتوجّه بهذه الدراسة إلى روح أبي ، رمزَ اعترافٍ وفيٍّ منَ البنوَّة إلى الأبوّة ... وخضوعاً حرّاً راضياً بقضاء القاضي : (( وقضى ربُّك إلاَّ تعبدوا إلاَّ إياه وبالوالدين إحساناً .. )) .
13
المقدمـَة وَالغـايـَة
ـ 1 ـ
ألا تشبهُ مُقدِّمةُ البحثِ مفتاحَ البيت ...؟
بهذا المعنى . ليس شيء أصعَب من تسليم المفتاح . لأنَّ التّسليم إسلامٌ
بأمانة المسلَّم ، وثقة تَطمئنُّ إليه ، فتُنتجُ الحرية والرِّضى للمُسلِّم والمُسلَّم .
أليسَ لهذه الغاية . ظلّت مُقدِّمةُ بحثي تُروِّضُني . فتَعُدني وتُبعدني ، حتى وافتني آخرَ شيء فيه . مع أنّها كانت أوَّل مُحرِّكٍ دفعني إليه ، منذُ أربعةَ عشرَ عاماً .. ؟
أليست حكايةُ الوَعد والبُعد ، بين مُقدِّمةِ بحثي وبيني ، إشارةً تُحدِّدُ مُشكلتي .. ؟
مرفوعُ البحث : ((معرفة الله)) ؛ وموضوعُه : شوقُ (( المكزون السِّنجاري)) إلى ذلك المرفوع ؛ ومرجوُّه : محاولة الكشف عن منهج المكزون الذي التزَمه للوصول إلى معرفة الله .
فالمشكلةُ : (( معرفةُ الله والمكزون السنجاري )) .
المكزونُ إنسانٌ مَخلوقٌ ؛ والله إلـه خالِقٌ . فكيف يَستطيعُ المخلوقُ
14
معرفة الخالق ؟ هل تَستطيعُ الصورةُ المرسومةُ للإنسانِ معرفةَ المُصوِّر الرَّسام..؟ وإلى أيّ حدٍّ تَصِلُ إمكانيةُ الإنسان للمعرفة ..؟ الإنسان يطمَحُ للمعرفة العليا ، ولكنَّ قدرته مرتبطةٌ بالدنيا ، فهل تنفتح القدرةُ الإنسانيةُ للمعرفة على العالم الأعلى الّذي يُسمِّيه القرآنُ عالمَ الغيب (1) وما المنهجُ الموصِلُ إلى هذا الفتح ..؟
هل اهتدى المكزون إليه فانتهضَ واقعه وارتفعَ موضوعه .. ؟ وهل يُجديني اهتداء المكزونِ التاريخيُّ في حياتي الحاضرة .. ؟
المكزون ، بالنسبة لي ، رمزٌ للإنسان . والإنسان رمز للوجود المتحقِّق ، المتحوّل ، التائق للقدرة ، المغامر في سبيل امتلاكها المحرِّر .
والوصول إلى القدرة المحرِّرة سعادةٌ ، لكنّها لا تُبلَغُ إلا في معرفة المطلق .
من هنا كان الحوارُ الأزليّ بين الإنسان وربِّه ، بين المقيّد والمطلَق ؛ فالله رمزٌ لواجب الوجود ، المحوِّل ، المطلق الذي لا حدود لقدرته ، القادر على كل شيء ، المختص برحمته من يَشاء .
لذا يكونُ اهتداءُ المكزونِ لمنهج وصولٍ نافعاً له ، ولي ، ولكلّ إنسان . وبهذا الشوق إلى السّعادة تحمستُ لدراسةِ منهج يدعو صاحبُه له ، مدَّعياً أنه أقومُ السَّبُلِ لمعرفة الله . فكيف أتحقّقُ من دعواه وأحقِّقُ مذاقَ دعوته (2) .
ـ 2 ـ
دفعتني للبحث دوافع ، وابتعثتني إليه بواعث :
دوافعي شوقٌ إلى معرفة الله ، غُرِسَ في نفسي ، يُشرق كلَّ شروقٍ ولا أرجو له غروباً ؛ فشروقُه تفاتيح تجدّدٍ وتفتحاتُ حبّ ، ليس كالشروق
(1) راجع : تمهيد الباب الثاني ، م1 ، ص201 . وأرجو أن ينتبه لهذين المصطلحين :
الأول : ثا ، وأعني به ، المجلد الثاني .
الثاني : م1 ، وأعني به المجلد الأول .
(2) راجع تمهيد الباب الأول ، م1 ، ص36
15
الذي يَجيء بعد غروب . بل هو نموُّ تطلعٍ أو تطلعاتُ نموّ .. ولا يَزالُ مُرتقى الشوق ، يتدفّق من قلبِ ينبوعٍ ، سرُّه وراء المنظور ، وبرهانُه ماثِلٌ في مُقَلِ الزهور ، وهي تَسبح على أمواج النسيم وتُسبِّح بلغةِ العطور .
وبواعثي ، شجاعَةٌ وقُوىً خارجيةٌ تمدُّ لدوافعي الداخلية جسورَ العبور من الغيب إلى الوجود .. من هذه البواعث جهادُ الأنبياء والمؤمنين والمجاهدين في سبيل معرفة الله .
ما أحببت في هذا العالم شيئاً ، كما أحببتُ خوضَ المعركة المعرفية مع هؤلاء المجاهدين .
وفي سنة 1958 م ، وقفَ المكزونُ في طريقي . كنتُ عازماً السّفر إلى موسكو ، لدراسة الأدب الروسيّ . ولم يكن أبي ، رحمهُ اللهُ ، مرتاحاً للفكرة(1) .
فأغراني بقراءة مخطوطة استعارها لي من صديق . وأغرتني القراءة بالكتابة ،فنسختُ المخطوطة(2) ؛ وداعَبت نفسي همومُ أشواق . قلت : لماذا لا أحملُ شعر المكزون معي إلى روسيا ، وأكتبُ حوله بحثي ، ويكونُ صيحةَ معرفةٍ روحيّة جديدة في بلاد المعرفة المادية .. ؟ وقلتُ : قد يكون المكزون في دعوته أصلحَ من يُعرضُ في تلك البلاد ؛ أليس تصريحه مؤكِّداً لهذا الصَّلاح :
(1) لبى أبي نداء ربه يوم الاثنين 22 (ذي الحجة) 1391 هـ ؛ الموافق 7 شباط 1972 م ؛
ولم يكتب لي أن أطلعه على تتمة عمل رعاه بعطفه وعقله وتشجيعه المعنوي والمادي ، وانتظر منه ومني (( سيرورة ماء الحماسة في مدار مرايا الله )) على حد تعبيره ؛ أسأل الله لنفسه المطمئنة عودة الرضى ، وأرجو أنني وعملي لن نخيب ما كان يرجوه مني ، طوال مدة وعيي ، في حياته ، وما ألح عليه في وصيته لي بمثل القول : (( الأمير مؤمر ربه . والكبير وفي بار بأمته . والبر هدي بالحق وعدل به .. وحان الغروب .. ماض أنا لربي . أنتظر الشرق في عين الغرب . أرجو أن تعرف كيف تشرق وتشرق معك النفع لأمتك . أنت ابن أمة (( يهدون بالحق وبه يعدلون )) ، فاعرف سورة الأعراف ، ولا تنس الأشراف ، فإسلامك سلامك . وإني مسلمك لمهيمن يختص برحمته من يشاء .. أما أنا فعلى باب الفجر . سمعت صوت الموت . والحمد لله ، وكان من أمري، ودعت هذه الحياة )) ؛ 1 شباط 1972 م ، 17 ذي الحجة 1391 هـ
(2) أتممت نسخها يوم الجمعة 28 ربيع الثاني ، 1378 هـ . الموافق 31 تشرين أول 1958 م.
راجع المجلد الثاني ، فيه وصف النسخة : ص : 14 .
16
ودعـوتي جـامعةٌ للـورى يدعو بها المؤمنُ والكافرُ .
لكن الشوق الكبير ، تنوء به هِممُ الصِّغار . وكذلك ناءت همّتي ..وشرح الشوق الكثير تَضيقُ عنه الكتبُ . وكذلك0 يُضيقُ بحثي . غير أنَّ المكزونَ يبتعثُ شوقي ويُجدِّده ، ويُشجِّعُ عزمي ويحثه ، بمثل القول : ((ذلكَ طبيعيٌّ للإنسان ، أشواق نفسِه أكثر من مفردات لغته ؛ وحجمُ حبِّه أكبرُ من حدود صدره ، والعائبون على هذا الإنسان شوقَه وحبّه يُعْدَون بمثلهما إذا تَعِبَ لأجلهم ..(1) )) فرضيتُ بالتعّب ليرى من لم يكن رائياً ، وليَحضرَ وليمةَ الشوق والحبّ من كان غائباً ، وليخوضَ معركة المعرفة من كان هارباً ..
عنيتُ بالأعمى ، الغائب ، الهارب ، ذلك الكسولَ فيَّ ، وأحببتُ تنشيطَه والنهوض به ، ليرتفعَ موضوعُه . وأصغيتُ للمكزون ، فلاح لي إيمانُه بقدرة الإنسان المستطيعة .
الإنسان مزوَّدٌ باستطاعةٍ واسعة ، إذا سلك المسلك القويمَ بلغ غايةَ غاياته (2) ، فما هو المسلك أو المنهج القويم عند المكزون ..؟
يَعرضُ المكزون منهجَه لمعرفة الله ، ويدعوا إليه شُداة النجاة ، وعشّاقَ المعرفة ، في نصوصه التي تركها (3) . فما هي تلك النصوص .. ؟
ـ 3 ـ
عندي للمكزون ثلاثة آثار : ديوان شعر . ورسالةٌ سماها : تزكية النفس . وأدعية خاصة ؛
(1) راجع المجلد الثاني ، رقم : 34
(2) نفسه ، ص 176 ؛ رقم 232 . وص : 275 ـ 276
(3) لاحظ : منهج المكزون م1 ص : 45
17
وصفتُ هذه الآثار الثلاثة ، في الباب الرَّابع من هذه الدراسة (1) ، وحققتُ معظَمها ووضعتها في فصلين : الأول للشعر . والثاني للنثر .
وهذه الآثار الثلاثة تنبعُ من أثرٍ رابع ، لا يفتأ صاحبُها يذكره ، ويتغنّى به ، لأنّه شِفاءٌ لألمه ووعدٌ بسعادته . هذا الأثر الشافي الوافي هو القرآن الكريم (2) .
هذه الكتب الأربعة هي مصادر الدراسة الأولى . وعليها اعتمدتُ في بناء البابين : الأوّل والثاني (3) .
أمّا المراجع التي أفاد منها بحثي سوى هذه الأربعة المذكورة ، فقليلة كمّاً . وقليلة الأهمية نوعاً ، بالنسبة للمشكلة موضوع البحث . وقد عرضتُها جميعاً وأظهرت قيمتها في الفصل الأوّل من الباب الثالث (4) . وعليها بنيتُ الباب
الثالث (5) . وكذلك حققتُ نصوصَها ، وأثبتُها في الباب الرابع ، فصلاً ثالثاً ، بعنوان أخبار المكزون (6) .
وقد ذُكر المكزون في عدّةِ مخطوطاتٍ خاصة (7) وألزمتني دراسته العودة إلى مخطوطاتٍ ومطبوعاتٍ تتناول المعرفةَ عامةً ، ومعرفة الله خصوصاً . ومع أنني أحلتُ إلى حوالي 350 مرجعاً ، في هوامش هذه الدراسة ، وأغفلت ذكر مثلها ؛ فإن مكوِّناتها الجوهرية أربعة مصادر ومرجعان (8) :
المصادر هي :
(1) ثا ، ص : 13 ؛ 259
(2) لاحظ فصل القرآن كتاب المنهج ، ص : 77
(3) من ص : 33 ـ حتى ص : 458
(4) ص : 465
(5) من ص : 459 ـ 515
(6) ثا ، ص : 305
(7) لاحظ ذكر بعضها في الفهارس ، ثا ، ص : 426
(8) لاحظ التمهيد المنهجي لكل باب من أبواب هذه الدراسة الأربعة .
المكزون السنجاري م1 ـ 2
18
1 ـ القرآن الكريم ، ومعاجمه ، وشروحه ؛ وقد اعتمدتُ في دراستي على ستين سورة من سوره ، تعرَّض لها المكزون بالفهم ، أو التزمها منهجهُ ، واقتضتها معرفته .
2 ـ ديوان المكزون ، وفيه 466 وحدة شعرية ، حققت منها 389 وحدةً ، وألحقتها بالدراسة . ورتبتها حسب الحروف الهجائية ؛ وبوبت وَحَدات كلِّ قافية في مثنويات ، وثلاثيات ، ورباعيات ، وخماسيات ، وقطع ، وقصائد ، ومطوّلات ، حسبَ عدد الأبيات ؛ وراعيت في كلِّ باب ترتيباً موضوعياً آخر ، ينطلق من فكرة المكزون الأساسية ، وهي خلاصُ الإنسان من الشقاء ، ورفعُه إلى السّعادة ولا يُبلغ ذلك إلا بالمعرفة والمحبة وما تقتضيانه من جهادٍ أصغر وجهاد أكبر . فجاءت نصوص كلِّ باب موزَّعة على هذه الموضوعات الثلاثة : المحبة ، المعرفة ، الجدل وما سوى ذاك من ملحقاته (1) . وقد اعتمدت في دراستي على 170 نصاً شعرياً (2) شُرِحت ، وجُليتْ منها مواقفُه المنهجية والمعرفية، بالمقارنة مع سور القرآن الستين (3) ، ومع نصوصه النثرية ..
3 ـرسالة المكزون ،تزكية النفس ، في معرفة بواطن العبادات الخمس . وصفتها في الباب الرابع (4) وحققت نصوصها وأثبت فاتحتها ومقدمتها، والباب الأول في معرفة أقسام العبادة ؛ والباب الثاني في معرفة أقسام الإسلام ، والباب السّابع في معرفة باطن الجهاد . واعتمدتُ على سائر نصوصِها ، في الدراسة ، لكنني أفردت أبواب : الصلاة ، الصيام ، الزكاة ، الحج ، لدراسة خاصة ، هي رسالة المكزون العملية .
(1) لاحظ مقدمة التحقيق لشعره ؛ ثا ، ص : 13 .
(2) لاحظ تحديدها في الفهرس ، ثا ، ص : 371
(3) نفسه ، ص : 377
(4) نفسه ، ص : 259
19
4 ـ أدعية المكزون ، لم أعتمد عليها كثيراً ، فهي أدعية ارتياضية خاصّة ، ألّفها المكزون للدعاء بها ؛ فلكلِّ يوم من أيام الأسبوع دعاؤه ؛ ولكل عيد من الأعياد دعاؤه . وعدم الاعتماد عليها نصاً لا يعني عدم استلهام روحها (1) ..
أما المرجعان الأساسيان : فتاريخ المكزون ، للشيخ يونس حسن رمضان
( 1880 ـ 1930م ) . (2) وتاريخ العلويين لمحمد أمين غالب الطويل (المتوفى 1926م )(3) . ويُلحق بهما شرح الشيخ سليمان الأحمد ( ت 1946م) ، على ديوان المكزون .
أمّا كتاب يوسف عبد الرحمن ، صدر 1953 م . ورسالة علي إسبر (أدونيس) صدرت 1954 م . وكتاب حامد حسن ، صدر الجزء الأول منه
1970م ، وصدر الجزء الثاني 1972م . وكذلك إشارات : عبد الكريم اليافي ؛ وزكي مبارك ؛ والزركلي ، وكحالة ، وغيرهم (4) ... فلم تقدِّم جديداً من الناحية التاريخية ؛ وليست في صدد ما أنا به من الناحية المعرفية . وكذلك المخطوطات التي للمطران يوسف الدبس ، وسليم الأدهم ، وبدر الحويلا ، وابن هاني ، وسلمان بيصين ، وغيرهم (5) .. فقد كانت الإفادة منها قليلة ..
ـ 4 ـ
لذلك انحصرت مصادري ومراجعي في هذه الحزمة القليلة عدداً ، الكبيرة شأناً ، ومنها بنيتُ بحثي ، وجعلتُه أربعةَ أبواب .
(1) نفسه ، ص : 262
(2) نفسه ، ص : 328
(3) نفسه ، ص : 353
(4) م1 ، ص : 478
(5) ثا ، ص : 311
20
الباب الأول : منهج لمعرفة الله ، أو منهج القرآن لمعرفة الله كما فهمه المكزون . وفيه تمهيد ، وأربعة فصول ، وخاتمة .
شرحتُ في التمهيد عنوان الباب . وحدَّدتُ موضوعَه المنهجيَّ . وأظهرت أهمية البحث عن اليقين المنهجيِّ لمعرفة حقيقة حقِّ اليقين ، عند المكزون ، وعندي ، وعند الإنسان في كلِّ عصر .. وأوضحت منهجي الذي اتبعته لكتابته وترتيبه .
ركزت في التمهيد نفسه مراميَ كلِّ فصل من فصول هذا الباب الأربعة : منهج المكزون : دليل وسبيل ومعرفة .. أهمية اليقين المنهجّي .. هل القرآن كتاب منهج .. أسلم الطرق سنة لا تقبل النسخ . ثمّ أشرت إلى أهمِّ النتائج التي وصلت إليها في خاتمته .
أما الباب الثاني : معرفة الله ، أو نظرية المعرفة في القرآن ، كما عاناها المكزون . ففيه تمهيد ، وأربعة فصول ، وخاتمة .
حدَّدت في التمهيد موضوع الباب . وشرحت منهجي الذي اتبعتُه لكتابته وترتيبه . ثم وسعت فصوله الأربعة : مدخل إلى نظرية المعرفة .. سماء المعرفة والمسالك إليها .. هجرة المكزون إلى المعرفة والقدمية . الوصول إلى معرفة الله . ثمَّ أجملت النتائج التي أوصلتني إليها دراسة هذا الباب .
أما الباب الثالث : المكزون السنجاريُّ ، حياته وبيئته وعصره . فجعلتُه في تمهيد ، وثلاثة فصول ؛ ذكرتُ في التمهيد السببَ الذي جعلَني أغيِّر ترتيب التبويب المألوف وحددت المنهج الذي اتبعته في كتابته . ثمَّ أشرت إلى معطيات الفصول الثلاثة فيه : المصادر والمراجع .. سيرة المكزون .. بيئة المكزون وعصره ، وأشرتُ إلى سبب إيجاز هذا الباب .
وأفردتُ الباب الرابع في مجلّد مستقل ، وسميته : شعر المكزون ونثره وأخباره ،وجعلته في تمهيد ،وأربعة فصول.أظهرتُ في التمهيد منزلة المكزون
21
العالية في عصره وعصرنا ، وأشرت إلى دور نصوصه في بناء بحثي ، وحدَّدتُ منهجي في تصفيتها وتحقيقها ونشرها وترتيبها في أربعة فصول ؛ شعر المكزون .. نثره .. أخباره .. فهارس التعليقات والشروح ومواضع الخلاف بين النسخ .. وختمت هذا الباب بصناعة الفهارس الستة التي تيسِّر الاستفادة من البحثِ كلّه في أبوابه الأربعة ..
ـ 5 ـ
هذا تحديد سريعٌ للمشكلة ، والدوافع الداخلية والخارجية لبحثها ، والمصادر والمراجع التي ساعدت على تكوينها بالصورة التي جاءت عليها ، في أبوابها الأربعة :
لكن ذلك لا يعني السُّهولة المتناهية ، الظاهرة من المقدِّمة . فهناك مَصاعِبُ المعاناة ، إذ ليست المعرفةُ بالشيء السّهل . خصوصاً إذا كانت معرفة الله من خلالِ تذوّقِ شخصٍ آخر ، مثل المكزون السنجاري .
فما كُتِبَ عن المكزونِ السِّنجاري لا ينفعني في رحلتي معه ، ومع ذلك لا بدَّ من الإطلاع على الكتب المتعلِّقة به أو بموضوعه . وهذا يعني الإطلاع على كتب الدين ، والفلسفة ، والتاريخ ، عموماً .. وعلى الكتب الخاصة التي ذكرت المكزون . وما أشبهني ، وقد فعلتُ ، بمن يشكو التخمة والجوعَ في وقتٍ معاً .
كتبٌ كثيرة تبحث في مشكلة المعرفة الإلهية ، ولكن المكزون ذو معاناة خاصة ، وطريقته في غرامه لا يعرفُها إلا من يختبرها ؛ وهذا يَعني أن الرياضة ، لا بُدَّ منها لرؤية ما رآه ، وتذوق ما ذاقه ، حتّى يستبين لي ما أتحدَّثُ عنه . هذا منهجه ولا يُفهم بغيره .
وقد تكون بعض الأحداث قاسية على الباحثين ؛ فقد جرَّبتُ الكتابةَ عن بيتين عند المكزون هما قوله :
22
صفا جسدي حتّى بدا مِنْهُ قلبُه وشفَّ إلى أن بانَ مـا فيه من سرِّ
فغيّب سرُّ القلبِ قلبي وقالَبي كما غاب لونُ الماء والكأسِ في الخمر(1) .
ولكن المكزون استوقفني ، وناداني من نصوصه الأخرى : لا تكن أبعد الخلق عن الحق ، فأبعد الخلق عن الحقِّ من يحاول الحقَّ بعلم الكلام . اقتفِ الباطن من ظاهر الهدى الذي أنزله الله رحمة للأنام (2) . ذقِ الأمرَ أوّلاً ، عانِه ، عشه ، ثمَّ تحدَّث عنه . لا تكن غوياً ؛ فغويُّ الناسِ من يروي الذي لم يَستبنه . ووصفُ الفضلِ ليسَ فضلاً ، إذا لم يَبُد من الواصف (3) ..
حاولتُ العمل لبلوغ الحقِّ ، وجذبني في البيتين السّابقين جاذب عجيب ، فجرَّبت تصفية جسدي ، صمت ، سهرت ، وكانت غيبوبة . لكنها ليست غيبوبة صفاء ، فقد هبط ضغط قلبي .. ونصحني الأستاذ المشرف ألاّ أصوم .. ولكنني عدت إلى الصوم ثانية بعد سنة ، ولم يصُف الجسد ، ولم يشفَّ القلب ، ولم يبن لي سرُّ القلب ؛ ولكن بان لي عجزي هذه المرة أقوى من المرة السّابقة ، فهبط الضغط أكثر ، وأعادني الله إلى الحياة بعد رحلةٍ موتٍ ، لم تكن قاحلة ، فقد جنيتُ منها مذاقات طيبة .. غير أنني لم أصلِ الحالة ..
وبعد سنة ، وكنت قد قررت حذف المبحث المتعلِّق بهذين البيتين ؛ كنتُ في صيف 1971م في صنين ، معتزلاً المدينة ، لأعطي بحثي صورته الأخيرة .. فتحَ الله عليَّ ، فضلاً منه من دون أن أتعمّد ، ولكنَّ ما انفتح خصوصاً يُلزم الصَّمْت عن العموم .
هذا جانبٌ من صعوبات العمل مع المكزون ، في هجرته إلى سماء المعرفة .
وجانبٌ آخر ، يتعلّق بالمخطوطات الخاصة ، أو بالكتب التي تذكر أنها
(1) ثا ، ص : 100 ؛ م1 ، ص : 404
(2) ثا ، ص : 213 ، رقم : 307
(3) نفسه ، 223 ، رقم : 330
23
تناولت المكزون:..وبعد متاعب البحث , أعود كمن يعود من حُلُمٍ لذيذ, لكن ليس معه شيء ..
وجانب ثالث ,هو الأمانة ,فكراً و تعبيراً:
الأمانة الفكرية ,تعني : هل التقطتُ فعلاً ما التقطه المكزون؟ إذ لا بدَّ من استعادة الحالة مراراً ؛ مرةً على ضوء الذوق, و أخرى على ضوء نصوص القرآن ,و ثالثة على ضوء نصوصه الشعرية عامة ,ورابعةً على ضوء نصوصه النثرية ، و خامسةً على ضوء الروح العام الذي تنشرُه مُعايَشةُ المكزون.
و الأمانة التعبيرية , تعني : هل لاءمَ جسدُ الجملةِ روح الفكرة , و لذلك كنت أهدم أجساداً كثيرة , لكي لا أزعج الروح بثوبٍ ضيِّقٍ أو واسعٍ , أو مُتعِب اللون , فبعض الأفكار تُحِبُّ ألواناً بذاتها ,و أشكالاً بذاتها ؛ وبعضُها ذو مزاج واضح و الآخر ذو مزاج غامض. ممّا ألجأني إلى استخدام الكلمة الصريحة أو الإشارة الغامضة, و بدا لي دور التنقيط مهماً جدّاً ، فالنقطة عندي ,والفاصلة,والقاطعة ,والشارحة,وعلامة الاستفهام , و النقط المتتالية.. مقاديرُ تعبيرية أعرفها و تعرفُها أفكار البحث ,وقد لا يَقبلُ اصطلاحاتها غيرُنا. و مع ذلك لا بُدَّ من الإشارة إلى بعضها . مثلاً علامة الاستفهام ، وأحياناً أستعملها هكذا (( , و أحياناً استعملها (؟) ؛ و قد يُظنُّ أنَّ القضية لا تعني أكثر من الاستفهام . والحقيقة أنهما تختلفان, فالأولى متجهة الفم إلى الخارج , أي أنا أسأل العالم. و الثانية فمُها متجه إلى الداخلِ , أي العالم يسألني.
وربّما تبادلتا ,فأخذتُ مكان العالم بالإثارة أو أخذ مكاني. و قد يقال: إن هذا لا قيمة له في الكتابة. ولكن من يَسمعون بكاء الأطفال المتعبين في و ضعهم النوميِّ , يعرفون معنى شطب إحدى علامتي الاستفهام هاتين ,ووضع الأخرى مكانها.. و على هذا القياس تقاسُ الرموز الباقية ,مستهدية بضوء المعنى العام.
هذه بعض المصاعب : المعاناة , الكتب , الأمانة الفكرية و التعبيرية ؛
24
و غيرها لا يقلُّ عنها غرابةً ,كأن ينفر منك المعنى ، لخطأ ارتكبته معه , فيَجفوك و يُحرِّضُ عليك غيره من أصدقائه ,لذلك كانت اليقظة الدائمة و التواضع المستمرّ , و الحضور في النوم و متى تشاء المعاني, كل ذلك كان من لوازم الوصول..
والناس المدَّعون, المتحدثون بما لا يعرفون ؛ يضعون مثلي في إحدى صعوبتين : إما أن أتغاضى فأُغضِبَ المعنى. و إمّا أن أُسلِّط عليهم نار الصراحة فأُغضب الإنسان الصورة ..
وهناك ظروف مرافقة ,لا مجال لذكرها (1) ، و ليست الجامعة منبراً يتسِّع لكلِّ متاعبِ الباحثين . و يكفي أن تعرف من متاعب طلابها أنهم تلاميذُ أيّوب في صبرهم و تحمّلهم. الصَّبر مقرون بالحق ,بل ممهّد له ,لا وصول إلى الحقّ إلاَّ باعتناق الصّبر (( و تواصوا بالحق , و تواصوا بالصبر))(2) .
وإذا كان الصَّبرُ موصلاً إلى الحقِّ , فعلاً فهل أوصلني هذا البحث إليه و ما الحقُّ الذي يمكن اعتباره هنا غايةً تنفعُ الناسَ .. ؟
-6-
كلُّ بابٍ من أبواب هذه الدراسة الأربعة : المنهّج .. المعرفة ..الحياة .. النصوص.. يُعطي جواباً خاصّاً فلكلِّ بابٍ استقلاله الخاصّ , و نفعهُ العام,
(1) ذكرت منها طرفاً عن ا نـتـقال أبي , لأنه كان شديد العلاقة بهذا البحث.
(2) سورة العصر : 103/3
25
لثلاثةٍ : للمكزون , ولي , و لإنسان المستقبل ؛ فقد ذُكرت تلك الفوائد , في أماكنها من تلك الأبواب. وأميل إلى ذكر بعض المنافع التي تُستفاد من الدراسة عامّة:
فبالنسبة للمكزون , تغنّى قصّةَ حبِّه المعرفيِّ , بما أُعطيَ من غنى الغناء,
و إن كان بعضُ حبّه يجاوز كلَّ الحبِّ المعروف , وكلُّ عمره لا يكفي لعرض بعض حبِّه , و أرض الحسن الذي لحبيبه سماءٌ لكل حسنٍ معروف. و هذا ملمحٌ صغيرٌ من ملامح السّعادة التي عاشها و عيَّشَها في نصوصه التي رافقتُها في بحثي (1) ..
وبالنسبة لي , فقد أخذني منهج المعاناة , الذي أخذ نفسه به و دعا إليه, في مذاهبَ لها ثمارُها في كلِّ مذهب :
ففي المذهب الفرديّ : تعوّدتُ ألا أقفَ موقفاً ضدَّ شيء أو معه , قبل التبيّن الذي دعا إليه في فصل (( أهمية اليقين المنهجيّ)) ..
وفي المذهب القوميّ : صحّح لي مفهوماً تعلّمناه