رغم أنها الأرض العربية الوحيدة التي يمكن القول إنها حققت إنجازًا وحدويًّا في القرن العشرين، حين وحدت جناحي الوطن اليمني، فهي التي استطاعت أن تجمع عدن وصنعاء باختلاف أسسهما الفكرية والأيديولوجية في ظل بيئة فيها من عوامل الخلاف حينها ما يطغى على مقومات الوحدة، لكن نُظر لها بعين الشك منذ أن صوّبت أعينها نحو رأب الصدع بين أهل المقدس.
هي اليمن التي قال فيها النبي الكريم: "الحكمة يمانية"، فلماذا لم تسوغ هذه الحكمة للمحللين والمراقبين، تفاؤلاً ولو حذرًا بشأن حوار فلسطيني جديد؟.
ولماذا لا يكاد الفلسطيني يلتقط أنفاسه أملا في التئام الجراح، حتى يتبين له أنها ليست سوى أضغاث أحلام؟.
ألا يكفي القول إن اليمن تقف على مسافة واحدة من كلا الطرفين المتخاصمين -قياسًا بنظيراتها من الدول العربية الأخرى- حتى نقول إنها الأقدر على لعب دور الوسيط المصلح بين الإخوة؟
تشاؤم له مبرراته
وإذا كانت المؤشرات قد دللت وتدلل كما هو طاغٍ الآن على وسائل الإعلام عن فشل المبادرة اليمنية أو قرب استصدار شهادة وفاتها، لماذا توجّه الفلسطينيون أصلاً إلى صنعاء، ولماذا يتكبد أي طرف منهم عبء فشل مبادرة أو اتفاق أو معاهدة جديدة؟!
حقيقة الأمر أن من لم يجد مبررًا للتفاؤل في تحليلاته أصاب في استقراء الواقع ونقله دون تجميل أو تزيين، طالما طولبوا به بحجة دعم وتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية.
تيمنًا بمقولة: "لا بد من صنعاء وإن طال السفر"، حطت القيادات الفلسطينية متفرقة على أرض صنعاء؛ لتبدأ الإشارات الأولى توحي بما هو قادم، وبإيجاز، يمكن الحديث عن جملة من الدلائل تعزز وجهة النظر المتشائمة، وهي ما يتضح في الآتي:
- منذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها عن موافقة حركة حماس وحركة فتح على الانطلاق في حوار جديد ترعاه صنعاء، أعلنت القيادة الفلسطينية في رام الله، أن الوفد الممثل لهم في جولة الحوار هذه ليس مفوضًا، وهذا ما يحمل إشارات ضمنية حول الفرق بين المعلن والمستتر، فإذا كانت القيادة الفلسطينية معنية تمامًا بحل خلافها مع حماس، لماذا لم ترسل من هو مفوض لذلك، أم أن نقصًا في القيادات والمفاوضين حلّ في رام الله؟.
تاريخ العمل السياسي الفلسطيني يشير إلى النقيض، وما المشهد المحزن الذي بثته قناة الجزيرة الفضائية في حصادها فور توقيع الاتفاق من تباينٍ في وجهات النظر بين وفد فتح المفاوض في صنعاء وبين قيادته في رام الله، إلا مؤشر واضح على توجهات مسبقة لفهم المبادرة من منظور فئوي.
- مقارنة بسيطة بين وفدي الطرفين اللذين توجها إلى سوريا، ومن ثَم إلى مكة قبيل الاتفاق الذي ما لبث الفلسطينيون أن فرحوا بولادته حتى نعوه، ووفديها إلى التفاوض انطلاقًا من المبادرة اليمنية يوحي بما هو آت. حين كان الحديث يدور عن حوار ترعاه السعودية في مكة كانت حماس قد أوفدت رئيس مكتبها السياسي وكبار قادتها في الداخل والخارج، وأفدت حركة فتح رئيس السلطة والمنظمة، ومعه المجموعة المؤثرة في القرار الفتحاوي.
هذه الأيام نشهد نفس الدعوات للحوار ونفس الترحيب المشكوك فيه من كلا الطرفين، لكن طبيعة وفديهما إلى اليمن تدلل على أن نتيجة مسبقة في أذهان الطرفين عن فشل الحوار قائمة، وربما كان ذلك للحفاظ على إمكانية التراجع دون إحراج القيادات الأولى، وهو ما حصل بالفعل عندما لم تنتظر القيادة في رام الله عزام الأحمد حتى تراجعت عن موقفها عبر بيان أبو ردينة.
الخوف من الشارع
ليس تقليلاً من شأن الوفدين، فأبو مرزوق كان رئيسًا لمكتب حماس السياسي، والأحمد رئيس لكتلة فتح في البرلمان الفلسطيني، لكن التساؤل المنطقي، لماذا ليس مشعل وعباس؟ قد يجيب مهووس في دبلوماسية النخب، أن الحالة المشحونة بين الطرفين تستدعي عدم إحراج قيادات عليا؛ ولذلك لا بد من شخصيات كالمتواجدة في اليمن كي تمهد الطريق لعباس ومشعل. لكنه تناسى أن هذا إدانة لكلا الطرفين، فمعنى أنْ يخشى كلا الطرفين أن يواجه الآخر لأن الأجواء مشحونة، أنّ في ذلك مؤشرًا عمليًّا على أن كلا الطرفين آت أو قد أتى وهو عازم على بقاء تلك الأجواء مشحونة.
- تدرك القيادات الفلسطينية على اختلاف توجهاتها أن الشارع الفلسطيني سئم حالة الانقسام سواء من أبناء فتح أو حماس، ورغم أن الشارع شريك جزئيًّا فيما يجري وإنْ بصمتِه أحيانًا، فإنه يرفض الاستمرار في الوضع القائم، وما زال ينظر إلى ما حصل من انقسام على أنه حالة استثنائية سرعان ما ستتلاشى.
لذلك، وبمنطق أن قوة أي حزب أو حركة يكمن في رصيدها الجماهيري، وبما أن جزءًا واسعًا من الشارع الفلسطيني -وهو الحاسم- يتخذ مواقفه بناء على أحداث آنية، فإن كل حركة فلسطينية تسعى بجهد كي تظهر للعامة من الناس على أنها مع الحوار، ومع عودة الودّ إلى ساحة العمل السياسي الفلسطيني، رغم اختلاف الرؤى.
ودون الخوض في النوايا، فالمؤشرات العملية التي تظهر بين الفينة والأخرى من قبل فتح وحماس تشير إلى أنهما توجهتا إلى صنعاء خوفًا من الشارع لا خوفًا عليه وعلى مصالحه.
وما يظهر من تصريحات إعلامية وسياسات على أرض الواقع -قبل إعلان صنعاء أو بعده- تشير إلى ما أفدنا به، وإلا فما هو تبرير الدعوة إلى شبكة تأمين وطني من قبل السلطة في رام الله، كبديل عن المؤسسات الخيرية التي أغلقتها، في الوقت الذي تواجد فيه الوفدان في صنعاء، وما هو تبرير الدعوة إلى إجراء تعديل وزاري على حكومة هنية في ذات الوقت. وإذا كان الطرفان بالفعل قد ذهبا إلى صنعاء بنية الاتفاق، فعلى أقل تقدير يتوقع منهما أن يتوقفا عن تكريس سياساتهما الفئوية في الضفة وغزة على حد سواء.
- من المؤشرات الأخرى على أن الحوار والتوقيع على إعلان صنعاء لا ينبئ بما هو طموح، عقده في اليمن، فرغم ما نُكِنّه لهذا البلد من تقدير واحترام، ولشعبها المميز في تعاطفه مع القضية الفلسطينية، فإن السياسة في جزء كبير منها هي استثمار، وإذا كانت القيادة الفلسطينية مقتنعة حقًّا بأنها ستتفق، لكانت وجدت لنفسها مبادرة مصرية أو سعودية أو خليجية، تشكل ظهيرًا اقتصاديًّا وسياسيًّا متينًا لإنجاح المبادرة.
بمعنى أن الفصائل الفلسطينية حين تكون ناضجة لإبرام اتفاق كامل وليس مجرد أطر عامة، فإنها ستهديه (أو بمنطق ميكيافيلي، ستبيعه) لمن هو قادر على ترويجه واستثماره بما يخدم مصلحة الطرفين. وكل مراقب لما بعد انتخابات 2006، ولديه من الدقة نصيب، يدرك أن اتفاق مكة طهي ونضج في دمشق، لكنه قُدّم على مائدة ملكية في مكة المكرمة، فإذا كانت اليمن قد لعبت دور دمشق في اتفاق مكة، فهل من دولة أخرى مستعدة للعب دور السعودية؟ البوصلة تشير إلى مصر هذه المرة.
من يحمل المسئولية؟
من الضروري هنا الإشارة إلى أن المشكلة في احتمالية إخفاق إعلان صنعاء لا تقع على عاتق اليمن، وإنما على الفلسطينيين أنفسهم، ويبدو فعلا أن اليمن أدرك أن الخلاف الفلسطيني الداخلي أعمق من أن يعالج في مبادرة ذات طرح عمومي ولزج، فما نقْلُها الحوار من القصر الجمهوري إلى وزارة الخارجية إلا استباقًا لنتيجة ستكون متواضعة في أفضل الظروف.
هذا فيما يتعلق بالمؤشرات المستقاة من أجواء الحوار، فماذا عن مضمون المبادرة وهو الأهم؟.
كل المؤشرات السابقة لم تحُلْ دون توقيع الطرفين لإعلان مشترك، سُمّي إعلان صنعاء، وتكللت جهود الرئيس اليمني بالنجاح، فهل تصلح هذه المبادرة وهذا الإعلان مدخلا لجلب الاستقرار للساحة السياسية الفلسطينية؟.
أولا: هناك إشكالية في الأساس الذي تنظر فيه فتح للحوار حول المبادرة اليمنية، فقول فتح إنها جاءت للتوقيع على المبادرة معتبرة ذلك نقطة تحسب في رصيدها، أمر تجدر مناقشته، فمثل هذا التوجه يفقد المبادرة مضمونها، ويلغي فكرة الحوار، فما معنى أن يتم التوقيع عليها دون حوار؟ والقيام بترويج دعوة حماس للحوار انطلاقًا من المبادرة على أنها تعطيل للجهود اليمنية وإفشال لها أمر يجافي المنطق.
هي مبادرة، ولغويًّا تفيد بأنها البداية وليست نهاية المطاف؛ لذلك لا بد من الحوار بشأن بنودها؛ لأن معنى تنفيذ بنودها دون حوار أنها تحولت إلى شروط.
ثانيًا: مضمون المبادرة فيه من مواقع الخلل ما يستدعي المعالجة، حتى لا تعود الساحة الفلسطينية، إلى نفس نقاط الخلاف، فأبرز بنود المبادرة وهو الدعوة إلى عودة الأوضاع إلى ما قبل سيطرة حماس على غزة، بند مرن شبيه ببنود وثيقة الوفاق الوطني التي أصدرها الأسرى الفلسطينيون كونها بنود تقبل الصرف حسب الرغبة الفصائلية، وهنا يمكن الإشارة إلى الآتي:
- الدعوة إلى عودة الوضع السابق، فيها إيحاء أن الماضي كان مثاليًّا إلى درجة تدعونا إلى اجتراره، لكن الحاجة مُلحّة الآن للبحث في مستقبل العلاقات الفلسطينية، وليس البحث في إعادة إنتاج الماضي، وهنا يبدو أن واضع المبادرة كان واعيًا لسوء الماضي والحاضر، حين أشار إلى ضرورة إصلاح الأجهزة الأمنية وفق أسس وطنية، لكن وعيه هذا دلّل على تناقض واضح في الوثيقة، فالعودة إلى الوضع السابق تعني العودة إلى أجهزة أمنية لم تقم على أي أسس وطنية، إذن لا داعي للحديث عن عودة الماضي.
- تناقض آخر تضمنته بنود المبادرة، حيث أشارت إلى ضرورة العودة إلى الوضع السابق، أي ما بعد اتفاق مكة وما قبل السيطرة العسكرية على غزة، وفي نفس الوقت تطالب ببحث موقف حماس من الاتفاقيات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي، ألم يعالج هذا الملف في اتفاق مكة؟ وهل هذا يعني أن المبادرة اليمنية ستبدأ من الصفر؟.
ليس هذا فحسب، بل إن المبادرة تطالب بالعودة إلى الوضع السابق، أي فترة الوفاق، وتطالب أيضًا بانتخابات مبكرة، فما هو مبرر هذه الدعوة للانتخابات إذا توافق الفلسطينيون، أم أن المطلوب تكريس ثقافة سياسية فلسطينية جديدة، تفيد بإعادة أي انتخابات تأتي نتائجها على عكس ما يهوى العم سام
تحياتي - د-حسام السياني