ابن مترف شاعر البدو والصحراء

موضوع: ابن مترف شاعر البدو والصحراء 17.11.07 4:49

أَحَبَّ البر والْمَزْيُونْ

يحكي شاعرنا ابن مترف موقفا جميلا عندما رآه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله رحَّب به وقال له: “عرفنا البر، منو منو: من هو هذا المزيون؟ وين وين: أين يسكن؟”، وعندما نزلتُ مطار مدينة العين لأول مرة أخذنا موظف العلاقات العامة بسيارة من المطار إلى الفندق، وبمجرد أن غادرنا المطار وترامت لنا الصحراء أدار سائق السيارة مؤشر المذياع ليشدو صوت مغن خليجي بأغنية سيكون لها أثر كبير في نفسي :

أحب البر والْمَزْيُونْ
أحب البدو والأوطانْ

أحبك قبل لا يدرونْ
هلي واهلك ولا الجيرانْ

بحب العذري المخزون
بمجرى الدم والشريان

أحبك والمحبة عون
محبٍ عاشق ولهان

ولجلك كل شي إيهون
على شانك رفيع الشان

ويمضي المغني مبددا وحشة السفر وسكون الليل:

إلو تطلب نظر لعيون
عطيتك منيّه سفطان

نسوم الروح لو يشرون
ونرضي الخاطر الزعلان

حرام الصد ياالمظنون
حرام البعد والهجران

تعطف وإرحم المفتون
بحبك هايم حيران

تبات إنته مريح إشجون
وانا اشجوني بها طوفان

وتبدو مدينة العين بحدائقها الغافية وشوارعها المتراصة في تناسق عجيب وكأنها مصغية لجمال كلمات المغني وعذوبة صوته وصدق الشاعر مما جعلني أستغرق في التفكر في المعنى والمغنى، ورحت في الصباح أبحث عن كلمات هذه الأغنية لأفاجأ أن جميع من سألتهم يعرفونها ويحفظونها، وكأنها أغنية شعب، وعنوان وطن، يرددونها كأنها كلماتهم لا كلمات بن مترف الشاعر، لقد صارت قصيدتهم وأغنيتهم، وعندما كنت أدرّس العروض بمجرد أن أقول أول كلمتين من البيت الأول من القصيدة أجد روحا تسري بين الطلبة في القاعة، ويهتز الجميع فرحا ويرددون القصيدة ويبدأ الجميع في تقطيع تفعيلاتها الهزجية في تناغم يمنح المحاضرة جوا شعريا قل أن يتكرر دونها. من هنا رحت أبحث عن الشاعر وعن قصائده الأخرى ودواوينه، وهالني ألا أجد ديوانا لشاعر في قامته وشاعريته وتأثيره، ومن هذه اللحظة نويت أن أهب العربية ديوانه الذي جمعته وسيصدر قريبا عن مركز زايد للتراث والتاريخ.

فلاش باك عن الشاعر

هو خليفة بن محمد بن مترف النعيمي من سكان مدينة العين، منطقة هيلي، ولد عام ،1945 متعلم، متزوج ولديه ستة أبناء، عاش حياته البدوية بما فيها من متناقضات، عشق الصحراء حتى اكتسب منها صفات البدوي الكريم، صاحب النخوة والشجاعة، “الذي يملك صفة الطيبة وصفاء النفس والتواضع الشديد الذي تشعر به من خلال حوارك مع هذا الشاعر المتميز في كلماته والمتفرد في أسلوب شعره المرهف الشفاف الذي يدخل قلوب القراء والمتذوقين للشعر النبطي الأصيل”.

عمل ابن مترف في القوات المسلحة، ودخل في دورة الضباط وكان يشرف على تدريب المرشحين، وحصل من خلال عمله في المجال العسكري على وسام الشرف من الملكة اليزابيث ملكة المملكة المتحدة عام ،1967 وبعدها عمل في جهاز الشرطة وصقلته الحياة بالخبرات، وقد أبلى بلاء حسنا في مجال الشرطة، حتى حصل على وسام الخدمة المخلصة عام 1998 من المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، وبعدها تقاعد عن العمل برتبة رائد، وتفرغ للحياة البدوية من جديد، الحياة الواسعة البعيدة عن ضجيج المدينة، فهو البدوي الذي لا يستطيع أن يبتعد عن الصحراء، ونجد طابع البداوة طاغيا على قصائده، وشدة حبه للإبل وتربيتها حتى إنه خصص جزءا من قصائده لوصفها، وأصبح الشاعر لا يستغني عنها ولا زال الشاعر متعلقا بها فهو يعمل كمندوب لاتحاد سباقات الهجن لإمارة الشارقة، ومضمر إبل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله.

إن الصحراء والبداوة هما مرتكزا شعر بن مترف، وهما المعين الذي يلقي بدلوه فيه فيأتي قصائد بدوية مؤثرة، ويكاد شعره يتفرد بمرحلة وسطى بين النبطي والفصيح، فغير الخليجي قد تستغلق عليه بعض المفردات والتراكيب لكن شعر بن مترف مفصَّح قريب من التركيبات الفصحى، بيد أنه حين يوغل في الغموض متحديا فلن يغوص غواصو الشعر مثله، هنا يبدو الغموض في ثوبه النقدي ضرورة، ويبدو الإبهام مطلوبا.

لم يتوقف ابن مترف في شعره على غرض شعري واحد بل جاء شعره مختلف الألوان، فقد كتب في حب الوطن، وأبلى في الغزل بلاءً حسنا، وهذا سر من أسرار ذيوعه وانتشاره، كما أنه كتب في فن الوصف، والمدح والرثاء، والفخر، ونجد أن الإخوانيات والمشاكاة قد أخذتا حيزا كبيرا من شعره، فقد التقى ابن مترف بمجموعة من الشعراء الإماراتيين، منهم راشد الخضر، والجمري، وابن سوقات، وعلي بن رحمة، وربيع بن ياقوت، وكانت له بعض القصائد المتبادلة بينه وبين مجموعة من الشعراء، ومن هؤلاء الشعراء محمد بن سالم الظاهري، وحمد بن سهيل الكتبي، وسالم بن حاذة الكتبي، وإبراهيم الحديدي.

والمتمعن في قصائده يجد أنها صادقة، وعفوية غير متكلفة، تخاطب الإنسان بشكل عام، لم يخصصها لطبقة معينة في المجتمع، الجميع يستطيع أن يفهم لغة شعره، وهذا إن دل فإنما يدل على حضور المتلقي في دائرة اللاوعي لديه، ويدل على موهبة شعرية متفردة، فهو ينتقي ألفاظه حتى تحسب أنك قادر على أن تأتي بمثلها، ويصوغها في تركيبات تضعه في مصاف كبار الشعراء النبطيين في عصره.

من عجب أن النقاد لم يلتفتوا نحو شعر ابن مترف، لكن مطربي الخليج العربي وجدوا فيه كنزهم المنشود، فالألفاظ سهلة والتراكيب ليست بالمعضلة، والمعاني ليست بالمستغلقة ومن هنا وجدنا في السنوات التي مرت قصائد كثيرة لابن مترف مغناة شدا بها بعض المطربين المحليين ومنهم: علي بن روغة، وميحد حمد، وحارب حسن، ومحفوظ سعيد، وأحمد الشيباني، ومعضد سالم، وشهاب حمد، وسعيد مبارك، وخليفة علي، وسلطان خليفة، ومحمد سهيل، ومحمد حسن، ومالك العامري، وسالم سيف، وسلطان محمد، وفتى شمل، وسعيد سالم.

إن وناته ومشاكاته تنبع من قلب عاشق محب:

ون بن مترف وقلبه مبتلي
بالهوى والود وفْراق الحبيبْ

إن ونّاته من أعماق قلبه، ونة صادقة متعبة “ونت اللي سم حيّات السعنه”

ربما كان الإيقاع العروضي نداهة لبَّاها المغنون، ففي قصائده يميل إلى الأوزان المجزوءة التي تعين المطرب على الطرب والإيقاع السريع، كما أن حروف المد الشائعة في أبياته والقوافي المردوفة يراها المغنون أدوات معينة لهم على تأدية مقامات وونّات وشلاّت وآهات، وما آهات ابن مترف المبثوثة في شعره إلا صدى عصره وشكواه التي يبثها أبناء جيله وبنات جيله باحثا عن نقاء البدو، وجمال الصحراء.إنه شاعر البدو والصحراء، الذي نتساءل اليوم كما تساءل من قبل الشاعر الوزير محمد بن سالم الظاهري في مشاكاته للشاعر خليفة بن مترف:

وين يا بن مترف اشعارك
اختفا صوتك ولا باني

انت عارف مصدر أوزانك
مشتهر في كل ميداني

كم من مزيون هنّا لك
لك وغنّا لك باللحاني