.
في غرفة ناصعة البياض لا يسمع فيها سوء رنات جهازٍ موصول بأسلاك موضوعة على صدرها , وصعوبة في التنفس ,
وكان وراء الباب الطبيب المشرف على حالتها ! يتخاطب مع والدها عنها ,
وبخطوات مترددة على أرضية المستشفى الكئيبة بعين أبيها ,
فتحَ الباب مطأطأ رأسه , وبين عينيه صورة أبنته وهي تمازحه فيما مضى : كانت نازلتاً من الدرج وهي تغني وعلى دخلت أبيها ذهبت إليه مسرعة واستدارة بعفوية قائلة : ’ همّ ! أليس ردائي جميلاً يا أبي ؟ قال لها وعيناه تلمعان من شدة سعادته لـ فرح أبنته الوحيدة .. أنتي من تحلينه وليس هوَ يا عزيزتي , ضحكت بغنجً وقبلت رأس أبيها الذي اكتسى الشيب حلة له ,
وانقطع حبل أفكاره بمجرد سماعه لرنات الجهاز المسببة للضجيج بشكلٍ مُهلك ! والتي تثير الفتور بالنسبة إليه وبداخله أحاسيس مضطربة , فهو أب ! يحلم أن يرى ابنته تتمتع بصحة والعافية و تحضا بعيشٍ رغيد وحياةً سعيدة . . وحين إذن تذكر قوله تعالى ( قل لن يصيبكم إلا ما كتبه الله لكم ) , وبات مُحاولاً استيعاب ما قاله الطبيب وما يراه ألان , فـ هي مازالت تغط في غيبوبتها آلتي استغرقت عدةً أشهُر من الكمد و الرجاء , ولا مُنجي لها إلا الله . .
,
أقبل الليل بسكونه الدافئ . . وبدا القمر مضيئاً في كبد السماء منعكساً على نافذتها . . يتوسط النجوم المتلألئة . . فتزيده روعة وجملاً وسحراً بالضبط كملاك المُلقاه على ذاك السرير الذي لو نطق لقال كم هي تقاسي الآلام والأوجاع . . وخلال هذه اللحظات المحفوفة بالسكينة أخذت أم ملاك وهي امرأة كبيرة في السن . . ترتل ما تيسر لها من كتاب العظيم الجبّـار على رأس أبنتها آلتي احتوتها طيلة 14 عاماً مِن البذل اللامحدود لها وهي تمسك بيدها الصغيرة الغضّـة بيدها الغداقة حناناً
ومن غير أي سآبق إنذار ! حركت يدها التي تمسكها أمها وأثناء ذلك , شعرت أمها لوخزتن في قلبها ولكنها لم تلقِ لها بالاً ! فاستمرت بالقراءة وبصوت أعلى , وأثناء ما هي ترتل سمعة أنيناً خافت فـ نزلت عدساتها إلى ابنتها , فرأتها تحرك ساعديها بانزعاج!!
فـ هي وبحمد الله فاقت من غيبوبتها ولم يكن بوسع أمها إلا أن تسجد سجود شكراً للباري الذي استجاب إلحاح دعائها , فنزلت من عيناها دموع تسمى بدموع الفرح ! وقبلت رأس ابنتها وحققت أول مطلبا لها وهي أن تسقيها قطرات من الماء ,
بعد أن بللت ريقها صاحت بقولها . . ما هذه العتمة ! أين الضوء ؟ أريد نوراً!!
وبعد مُحاولات أمها لتهدئتها . . أيقنت تماماً بأنها فقدت أغلى واعز ما تملك !وهي بصيرتها التي لا يضاهيها شيء . . فخرجت من بين أضلعها تنهيدة عميقة . . تود لو أنها تزيح جبالاً من الهموم اعتجلت صدرها فأثقلت وأعيت كاهلها . .
وبينما ذلك القلب تائه في دوامات الحيرة . . وتلك الآلام قد التمعت في سمائها . . وأمطرت الهموم على ساحة فؤادها . .
إذ بتلك الكلمات العطرة . . تلامس الأذن لتشف مسامعها . . وتتغلغل في الصميم . . حينما وجدت أن الإله معها . . ينظر . . يطلع عليَها . . قريب جداً قريب . . بعدما تأملت ( وهو معكم أينما كنتم ) فهونت عليها واحتسبت الأجر. . وخلدت لسباتٍ عميق . .
,
وغيّر ملامح ولادتها الحزن والأرق على ما عليه ابنتها من حال , وهَـ هي تستنجد بملك الملوك أن يرفع داء ابنتها و يلطف عليها ولا يريهم مكروهاً بهآ ..
,
وقف بمنتهى القلق بآخر رواق المستشفى , وما إن سمع خطوات الطبيب حتى ذهب مسرعاً إليه , ليطمئن على صحة تلك الغالية . .
الطبيب : بحمد الله ومنته فقد فاقت من الغيبوبة وألان هي في أحسن حال ولابُد من ضبط مواعيد دواءها لتعود كما كانت بعون الله , ولكن ما يؤسف أخبارك بأن ابنتك فقدت بصرها والطب ألان تطور بمراحل عده وبمكانكم مُعالجتها في الخارج بإذن الله ,
الأب بشماغه الذي يغطيه البياض المُحمّـر يمسح دمعته التي ليس بوسعها فعل شيء سوء الدعاء لها ,
وبات يهذي بقول : لا حول ولا قوة إلا بالله إنا لله وإنا إليه راجعون . .
ربت الطبيب على كتفه وعبر ! وقد ترك خلفه سواداُ بعكس رداءه المناقض لذاك السواد ,
,
فهي راضية بحكم الله وقضاءه وأبت العلاج بالخارج ؛ لأنها تؤمن بأن لعُمي عُميٌ في تلك المضغة النابضة مابين الأضلع .. و ليس كُل أعمى أعمى .. مادام يملك بصيرَة الضمير ..! ولن يعيقها هذا الابتلاء عن استمرار حياتها بالشكل المطلوب !
وعزمت على أن مسيرتها التعليمية لن تزعزعها الرياح العاتية ولن يكون لحقول اليأس مكاناً عندها
بمشئته – سبحانه -