محمد بن عبدالرحمن بن حميد-بانوراما عربية
احتج الشعب التونسي على الأوضاع السيئة التي عايشها في الفترة الأخيرة والتي تمثلت في البطالة وسوء الأوضاع الاقتصادية وارتفاع تكلفة المعيشة، واستمرت تلك المظاهرات قرابة الشهر لتنتهي برحيل زين العابدين بن علي إلى مدينة جدة (السعودية) وتركه الحكم بعد 23 عاما من توليه رئاسة البلاد، وقد يظن البعض أن الصعوبات الاقتصادية هي التي أسقطت بن علي، ولكن الحقيقة غير ذلك؛ فقد سبق من قبل أن عانى التونسيون من صعوبات اقتصادية كبيرة في أوائل الثمانينات، ولكن هذا لم يسقط حكم بورقيبة، كما أن بن علي قام بعمل قرارات عاجلة بخفض الأسعار وغيرها من الإجراءات الإصلاحية إلا أن طوفان الاحتجاجات لم يتوقف. من المؤكد أن الشعب التونسي كان يريد الديمقراطية وليس غاضبا فقط من سوء الأوضاع الاقتصادية، فتونس لم يحكمها سوى شخصين فقط منذ استقلالها عام 1956، هما الرئيس بورقيبة الذي قاد ثورة تحرير تونس، ولكنه أصبح دكتاتوراً وحرم البلاد من التعددية السياسية، وحينما جاء بن علي للحكم عام 1987 على إثر تردي الحالة الصحية لبورقيبة وعد بإجراء المزيد من الإصلاحات الديمقراطية، ولكنه عاد بعد ذلك ونكص عن تلك الإصلاحات وتحجج بالإسلاميين ومخاوفه من وصولهم إلى الحكم، وانتهى الأمر به إلى فرض إرادته وتغليب نمط الديكتاتورية على تونس حيث المعارضة في مجلس الشعب صورية، كما أنه لا توجد حرية صحافة وتوجد رقابة على الإنترنت والهاتف. بن علي: الشعب لا يستحق الحرية كان بن علي دكتاتورا مهووسا بذاته، وتكاد وسائل الإعلام تسبح بحمده ليلا ونهارا، فهو الحاكم المستنير الذي يعرف جيدا مصالح التونسيين، ولعل تلك الهالة أوشكت أن تجعله واحد من القديسين، والأدهى من ذلك أن عائلة بن علي والأسر القريبة الصلة به كانت تعيش في رغد من العيش، بينما بقية الشعب يعاني الكثير في سبيل توفير الحد الأدنى للمعيشة، كان واضحا أن بن علي ونظامه لا يلقي بالاً للشعب التونسي، ولا يهتم كثيرا بمطالبه وكان يراه غير قادر على أن يتحمل مسئولية الحرية واتخاذ القرار. لم يكن ما حدث بعيدا عن التوقعات، فمن المعروف أن الشعوب لا تحتمل طويلا سياسة الأمر الواقع، ولقد حدث هذا من قبل في دول أوروبا الشرقية حينما ثارت شعوبها على الأنظمة الدكتاتورية، حقا قد ترضخ الشعوب للحكم الدكتاتوري إيثارا للسلامة، ورضا بالأمر الواقع، ولكنها بعد فترة حينما لا تستطيع تحمل ما يحدث من ظلم تفكر في الثورة، يبدأ الأمر باحتجاج بعض الأفراد ثم يقلدهم آخرون، وكلما زاد عدد المتظاهرين كلما زاد عدد من يلحقون بهم لتبدأ بعد ذلك احتجاجات واسعة تثير دهشة النظام الدكتاتوري ورعبه وتجعله يفيق وكأن هناك شعب آخر حل محل شعبه المستسلم لجبروته. لم يكن إحراق بوعزيزي لنفسه في شوارع سيدي بوزيد في 17 ديسمبر الماضي إلا تعبيرا عن أن الشعب التونسي لم يعد يستطيع تحمل نظام بن علي، ولذلك قامت مظاهرات ضمت الآلاف من التونسيين الذين لم يخافوا من قبضة الأمن وأعلنوا غضبهم عارما، لتبدأ ثورة تونس التي انتهت برحيل بن علي إلى منفى اختياري في المملكة العربية السعودية. لم تتضح الأمور بعد في تونس، فقد جاء محمد الغنوشي ليكون رئيسا مؤقتا ثم سرعان ما ترك دفة الأمور لفؤاد مبازعة رئيس البرلمان، الذي قام بتأليف حكومة جديدة لم ترض طموح الشعب التونسي لوجود الكثير من أعضاء الحكومة السابقة بها، وإن كان النظام الجديد يهدف لتهميش الأجهزة الموالية لبن علي، ولكن البعض يخشى من أن يقوم الحزب الحاكم في تونس بعد التضحية ببن علي بعمل بعض الإصلاحات الخاصة بحرية الصحافة وتوسيع مجال أكبر للمعارضة دون أن يتم عمل تصحيح شامل وحقيقي يحقق أحلام الشعب التونسي في حياة ديمقراطية. يعيد ما يحدث في تونس الآن ذكريات ما حدث حينما تولى بن علي الحكم؛ فقد شعر الكثيرون بالتفاؤل من وجوده وظنوا أنه قادر على منح الشعب التونسي الديمقراطية التي يتمناها، ولكنه سرعان ما نكص على عقبيه في التسعينيات وأطاح بالإسلاميين، وساعده على الحصول على المصداقية بعض الشيء ما حدث في الجزائر من حرب أهلية دموية بين الإسلاميين والقطاعات الأخرى، ولكن بعد انتهاء هذه الحرب فقد بن علي الغطاء الذي كان يتستر به، ويبدو أن مطالب الشعب التونسي بإقالة بن علي وعمل بعض التغييرات في الشئون الداخلية، والتي تحقق بعضها بالفعل لن تكون كافية في أعين الشعب التونسي الذي يبدو أنه اليوم في حاجة إلى المزيد. من القادر على حكم تونس الآن! الوضع في تونس لا يبشر بوجود قوة قادرة على أن تحل محل النظام السابق ويعود ذلك إلى قيام بن علي بخنق الساحة السياسية في تونس، لذلك لا يوجد سوى فئتين قادرتين على إدارة الأمور هناك هما الجيش والحزب الحاكم، كما أن الأحزاب القانونية الموجودة في تونس غير قادرة على إدارة دفة الحكم، أما الإسلاميون الذين كانوا البديل السياسي الحقيقي في الثمانينيات والتسعينيات فلم يعد لهم نفس التواجد بسبب نفيهم لسنوات. يبدو أن الأمور لن تستقر قريبا في تونس، وستكون تونس مخيرة ما بين الاستمرار في حالة الفوضى أو سيطرة الجيش على مقاليد الأمور لوقف تلك الفوضى. أصاب ما حدث في تونس الأنظمة العربية الشبيهة بقلق شديد خاصة في مصر وسوريا التي يتم الحكم فيها عن طريق حزب واحد مسيطر على كل الأمور، ولقد شعر مستخدمو الإنترنت والمدونون في تلك الدول بالتفاؤل لما حدث في تونس من نجاح لثورتها وقدرتها على خلع الرئيس التونسي، وأصبح لديهم الأمل في حدوث ذلك في بلادهم. ليست الأنظمة الجمهورية وحدها التي تعيش في حالة قلق ولكن الأنظمة الملكية مثل الأردن ودول الخليج تعيش نفس الحالة. قد يكون الأمر صعبا في سوريا ومصر بسبب تسييس الجيش هناك، كما أن الجيش التونسي أصغر وأقل احترافا من الجيوش في سوريا ومصر، وتشير التقارير إلى أن الجيش التونسي لديه أجندة وخلافات لذا لم يحم بن علي على أقل تقدير، كما رفض إطلاق النيران على المتظاهرين، وقد لا يحدث هذا مع الجيش المصري أو السوري اللذين هما أكثر ارتباطا بأنظمتهما الحاكمة، كما أن قادة الجيش قد يخافون على بلادهم من أن تسودها الفوضى إذا ما سقط النظام الحاكم فيها فيفضلون ضرب المظاهرات حفاظاً على استقرار البلاد. لماذا رفض الغرب استضافة بن علي؟ لا شك أن الأنظمة العربية الحاكمة لديها قدرة لا بأس بها على السيطرة على التحديات المماثلة وذلك عن طريق عمل بعض الإصلاحات والسماح بوجود معارضة ثم القيام بإحتواءها أحيانا وقمعها أحيانا أخرى، كما أن لديها الكثير من النقاط التي تتيح لها التواصل مع الغرب وتقليل ضغوطه عليها مثل المواقف المعتدلة تجاه إسرائيل، ووجود النفط، والمشاركة في الحرب ضد الإرهاب، كما أن وجود حركات معارضة إسلامية يخشاها الغرب ساعدت في دعم الغرب للأنظمة العربية المتسلطة. لم يجد بن علي حلفائه الغربيين بجواره في ساعات الشدة؛ فقد رفضت فرنسا لجوئه إليها وأشاد الرئيس الأمريكي بشجاعة المتظاهرين، ربما كان عدم اهتمام الغرب بما يحدث في تونس هو أنها لا تهمهم كثيرا فهي ليست دولة نفطية كما أنه لا توجد مخاوف من استيلاء الإسلاميين على السلطة مثلما هو الحال في مصر والأردن، ولكن الدرس الذي يجب أن تستفيده الولايات المتحدة والغرب أن استقرار الأنظمة العربية قد يكون خادعاً وأنها قد تتهاوى في أي لحظة، وإذا حدث ذلك فإن هناك حالة من الفوضى ستعيشها تلك البلاد بسبب عدم وجود مؤسسات قوية قادرة على إدارة فترة انتقالية آمنة. |