ب - تأسيس تلك اللحظات الأساسية للعلم الحديث، والإبانة عن كيفية تأسيس هذا الخطاب الجديد، ليس من خلال كونه قطيعة مع نمط من التفكير، وكذا إحلال بعضه بآخر، بقدر ما هو تأسيس لتمثل عالم ولعلاقة ذات عارفة بغيرها، وعليه فالعلم الحديث، تأسس استجابة للقطيعة التي استوجبتها الريبية أو المذهب الشكي، وفي هذا المعنى انكشف العلم على أنه فكر للقطيعة[11] (11).
الحال، إذن، أن الفراغ ساهم في "صنع العلم" "faire la science" كما ساهم هذا الأخير في "صنع الفراغ" مدرجا إياه في بنية رياضية من خلال نيوتن الذي أدرجه في مفهمته للعالم، حيث الفراغ هو فضاء مجرد من المادة.
ومع ذلك، فالفراغ "بلا مادة" لا معنى له، وهذا ما أثبت في القرن 19 ،كما خطت الأبحاث العلمية خطوات ملموسة بعد النظريتين النسبيتين (المقصورة والعامة) في بداية القرن العشرين، كان من ورائها البرهنة القطعية على ملء الفراغ بالطاقة، ذلك أن المشكل الذي تبلور مع قضايا الإشعاع، خاصة بعد أعمال فراداي Faraday وخصوصا ما كسويل Maxwell في صياغته قوانين الكهرومغناطيسية، طرح تساؤلات حول قضية التموج بالنسبة إلى الضوء، وعليه تمت الحاجة إلى إيجاد "مادة " يتموج الضوء فيها أو عبرها، من هنا انبثق مفهوم "الأثير" بعبارة أخرى، أصبح مفهوم الفراغ يعرف بقدراته الامتصاصية (الإشعاع الكوانتي) وبعدهاـ تحول نظريا مع اكتشاف فكرة "الأثير" أي افتراض وسط غير مادي يملأ كل الفضاء. إلا أن "الفكرة[12] التي تقول إن هناك حاجة لوسط من هذا النوع لانتشار الإشعاع الكهرومغناطيسي، لم تعد بعد صالحة للاحتفاظ بها"[13] وهذا ما برهنت عليه نتائج بعض الأبحاث العلمية من طرف المختبر الشمسي والفيزياء الفلكية بجامعة كاليفورنيا، حيث كشفت عن بعض أسرار الفراغ المتمثلة في أن لهذا الأخير مقاومة نسبية للسرعة. الشيء الذي استدعى ضرورة تفجير الفراغ من الميكانيكا النيوتنية (1687) إلى النسبية الأينشتينية (1917) أو بـلغــة رياضية من (F = ma) إلى (E = mc2) .قصد فهم ميكانزمات الفراغ المذهلة : ما هو أصل هذه الارتجاجات التي يشعر بها المسافر عندما يسرع القطار أو يفرمل؟ ما الذي يحدث هذه المقاومة/ القوة بالنسبة إلى تغيرات حركات المادة ؟ من أين أتت هذه المقاومة السلبية inerties التي لا يشعر بها عندما يتوقف القطار أو يكون في سرعة ثابتة ؟ إلخ.
إنها ارتجاجات وتموجات الفراغ يجيب كل من Puthoff و Haisch وRueda [14] الشيء الذي يتطلب مغامرة علمية جديدة تسائل تلك البنيات الرياضية الكلاسيكية من جديد، بدءا من مفهوم الكتلة الذي يمثل قدرة الجسم على مقاومة الفراغ، إلى مفهوم الديناميكا الحرارية … في إمكان ثباتها كخاصيات أساسية للمادة. و ذلك كله للخروج بمعادلة جديدة تتجاوز معادلة إنشتاين بوصفها لاكوانتية[15] ذلك أن الثورة النسبية رغم ما حققته من إنجازات كبرى، فإنها ظلت بعيدة الإجابة عن قضايا الفراغ، ما دامت لا تصف العالم إلا من منظوره المتناهي في الكبر، بينما النظرية الفيزيائية المعاصرة للكون تستند إلى ركيزة أساسية، هي فيزياء الكوانتا، ذات الوصف العالمي المتناهي في الصغر، والذي بموجبه أصبح النظر إلى الفراغ في كونه حالة أساسية تتمتع بقانون فيزيائي كباقي الأخريات، لكن مع تميزها عنها بخاصيتين:
أ - توفرها على طاقة جد منخفضة، أقل مما يمكن أن تمنحه النظرية.
ب - تجريدها من كل بنية، إن لم تكن تلك التي للزمكان التي تتضمنها.
ها هنا تكمن المفاجأة الكبرى لهذا العالم الكوانتي - حسب مارك لاشييز.راي - فمستوى الطاقة الأكثر انخفاضا ليس بالضرورة مستوى معلوما أو لا شيء، كما أن الفيزيائيين بإضفائهم طاقة لهذا الفراغ الكوانتي، يضفون طابع الغموض على قانونه، رغم ما تفرضه النظرية من قوانين بإلحاح (قانون الاحتفاظ بالطاقة) حيث إنه إذا كان كل شكل للطاقة هو مصدر للجاذبية، فإن طاقة الفراغ المنخفضة يمكنها أن تلعب دورها كوسمولوجيا في مسؤولية تسريع تمدد الكون. بعبارة أخرى، كل من الموضوعين هاذين بالنسبة إلى القوانين غير المحددة جدا - فراغ جذبوي و فراغ كوانتي - يمكن أن يفسر بعض الملاحظات النظرية، وهذا ما يعكس - يضيف لاشييز - اضطرابا نظريا كإحدى علامات عدم كفاية فيزيائنا المعاصرة في القدرة على بلورة نظرية جد موحدة تحمل على عاتقها تفعيل نوع من التواشج الفسيفسائي للظواهر النسبية و الكوانتية[16].
بقول آخر، يمكن لتلك المفاجأة للفراغ الكوانتي - حسب إ. كانزيك - أن تكون حسنة و سيئة حيث : الأولى، تتجلى في إمكانية اعتباره خزانا هائلا للطاقة الكامنة للكون (73% من طاقة الكون) و بالتالي، إمكانية تفسير انتشار كوننا عبر "فراغ أصلي" أصبح متقلبا و غير قار، في تقابل مدهش : ترجرجات كوانتية للزمكان، و التي جعلت منها صدى، منتجة- تلقائيا- المادة و الزمكان، وأن تمدد هذا الأخير أصبح هو المسؤول عن خلق المادة والعكس صحيح، وبذلك يمكن القول إن الكون بني "مجانيا" من خلال هذا الفراغ الأصلي المتقلب[17] ، أما السيئ في هذه المفاجأة - يضيف كانزيك - هو أنه عندما نقوم بعمليات حسابية حول طاقة هذا الفراغ فإننا نسقط في طاقة ظاهراتية : 1040(10وراءها 40 صفر) مرة أكبر كثيرا من تلك التي للكون المرئي، وهذا يعني أن منحنى الزمكان مثلا يشير إلى أن الكون كان ملتفا حول نفسه، مع أفق لا يتجاوز بعض السنتيمترات، و هذه هي " الكارثة"، أو المشكلة العميقة التي تتحدى العلم و التي تفرض صياغة فيزيائية جديدة للفهم.[18]
و بعد ماذا يمكن أن يقدم باراديغم فيزياء الكوانتا بخصوصنا نحن البشر كأشياء، وبخصوص تواجدنا في هذا البحر التموجي الكوانتي الذي تسبح فيه كل الأشياء؟ أجوبة نجدها عند الفيزيائية والمفكرة الفلسفية الأمريكية داناه زوهار[19] (19)، فإذا كانت الفيزياء النيوتنية تنظر إلينا كجزيئات للمادة، فإن فيزياء الكوانتا تنظر إلينا كأشياء مهيجة من لا شيء ! تهيجات ذات طاقة مستريحة، بحر من الكمون، الذي هو منبع طاقة هائلة، منبع كل ما هو كائن و ما سيكون !.
كما أن براديغم فيزياء الكوانتا - تضيف زوهار بخصوص الدور الفعلي لكل كائن فاعل في إطار هذا المجال الكوانتي - يختلف تماما مع علم نيوتن الذي لا يمثل سوى طريقة وحيدة للكينونة (شكل تفكيري نمطي ظل يمثل قوة هائلة في الغرب منذ قرنين، حيث أراد فرويد أن يكون نيوتن في السيكولوجيا وأدم سميت في الاقتصاد،ماركس في التاريخ، تايلور في التدبير) في مقابل علم الكوانتا الذي ينظر إلى المشغلين في المقاولة مثلا كموجات طاقية تمنح الحياة للمقاولة وليس ببساطة وحدات إنتاج. وعليه فالذي يهم كوانتيا، هو اللحظة الراهنة لإنتاج المعرفة، بوصفها لحظة تموجية طاقية فالحوار مثلا باعتباره "لحظة كوانتية" تتجلى في سيرورته فحسب.
خلاصة
في الوقت الذي بدأ فيه الفضاء "الفارغ" للنسبية المقصورة، يترك المكان للفضاء "المنحني" للنسبية العامة، وجدنا الفراغ الكوانتي قد ملئ ببحر من الجزيئات و المقابلات الجزيئية، هكذا لم يعد الفراغ يمثل ذلك الوعاء المفعول به، و إنما أصبح فاعلا ديناميا في تفسير الكون، و كذا في بنيته المجهرية، الشيء الذي جعله يفرض نفسه كموضوع نظري، و كباراديغم جديد في فهم ورؤية العالم، تفسر من خلاله قضايا الكون وقضايا الإنسان؛ كتلك المتعلقة بالإبداع والحداثة بوصفهما - كوانتيا - لحظتين تموجيتين طاقيتين تقومان على أساسيات تجاوزية.
وعليه، يمكن طرح الأسئلة التالية : هل تتفمصل طروحات الباراديغم الكوانتي وطروحات الابستيمولوجيا الجدلية الباشلارية في بناء المعرفة و تكوين التفكير ؟ و هل من شأن تمفصلهما أن يعزز من أطروحة المتناهي في الصغر أو التفسير الميكرو تطوري لميكانيزمات التفسير و المعرفة سيكولوجيا؟[20].
ما يتحدى العلم راهنا، إذن، هو فصل المقال فيما بين الفراغ الجذبوي والفراغ الكوانتي من اتصال، وهنا نكون مرة أخرى أمام منعطف فكري جديد لتاريخ الفراغ كسيرورة ونتاج معا، لكن مع "مبدأ إنساني" مميز يعي تحولات هذه الخاصية المفارقية المحايثة للفراغ، حيث تكون فاعل تسريع لعملية فهم العالم و تفسيره.
[1] - غاستون باشلار، جدلية الزمن، ترجمة خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر ببيروت، الطبعة الثانية 1988، أنظر الفصل الأول :" التراخي و العدم".
[2] - Steven Weinberg,"La physique peut -elle tout expliquer ?" in, La recherche N°349, Janvier 2002 ( Dossier : Expliquer et comprendre)
[3] -كارل بوبر، أسطورة الإطار، في دفاع عن العلم و العقلانية، ترجمة يمني طريف الخولي، عالم المعرفة، الكويت، عدد 292 أبريل/ماي2003. ينظر بالخصوص : الفصل الخامس :" الفلسفة و الفيزياء" ص 141 -148.
4- Edgard Gunzig, " Créer l’univers à à partir de rien ",in, La recherche N° 352, Avril 2002 pp.87.89
[5] - أو « Effet Casimir » ظاهرة تنبأ بها ندريك ب كاسيمير في 1948، و تم إثباتها في 1997 كقوة حقيقية للفراغ تتجاوز قوة الجاذبية، أي عندما تكون المسافة التي تفصل مرآتين ( في حجم 1 cm2 و 1mmارتفاعا ) أقل من 10 -5 mيحدث الدفع نتيجة قلة الفراغ الموجود بينهما بالنسبة لخارجهما، مم سمح بتأويل هذه القوة في اعتبار الفراغ الكوانتي - بنائيا- ليس معدوم الطاقة ( ? صفر طاقة ) ما دامت هناك كثافة طاقية منخفضة تقترب من الصفر أو طاقة الفراغ، هي التي عملت على تقريب الشيئين المتقابلين بالقياسات الموصوفة.
[6] - Simon Diner," Le vide et l’énergie de point zéro ", in, Le vide, Univers du tout ou rien, édition complexe, 1998, PP : 105-108.
[7] - ستيفن هوكنج، الكون في قشرة جوز، شكل جديد للكون، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، عالم المعرفة، الكويت، عدد 291 مارس 2003. ص 93( بتصرف).
[8] - للمزيد من الإيضاح حول تلك الكشوفات ينظر : محمد عابد الجابري، مدخل إلى فلسفة العلوم، مركز دراسات الوحدة العربية ،طبعة4 بيروت، يوليو1998. ( خاصة : الفصل الأول من القسم الأول للجزء الثاني).
[9] - Corine Massignat, Vide et matière dans la 1ère moitié du XVII ème siècle : Phénoménologie d’une polémique décisive. ( Résumé de la thèse d’histoire et philosophie des sciences, 16 Février 1998, Doc. Internet ).
[10] - بخصوص نص الرسالة و ملخصه، أنظر : محمد عابد الجابري، نفس المصدر، ص ص : 256-257.
[11]- Corine Massignat, Op.Cité
[12] - الحال، أن الفكرة، بدأت تعرف نوعا من الانسحاب مع تداعيات ظهور النسبية المقصورة لأينشتين في 1905 : حيث منحت نظرة مغايرة لفهم الضوء، كظاهرة تموجية، لها إمكانياتها الخاصة، دون الحاجة إلى التموج في شيء ما، و هنا يمكن تسجيل هذه القفزة المفهومية، المذهلة، حيث سرعة الضوء أصبحت مطلقة ( و ليست نسبية للأثير ). و عليه فالذي ينبغي أن يلغى و يحذف هي مطلقات أخرى ليصبح بالتالي المكان و الزمان نسبيين، كما أن اعتبار " الساعة الكونية" التي تقف وراء قياس زمن العالم لم تعد ممكنة لأن سيولة الزمن أصبحت نسبية.
[13] - ستيفن هوكنج، مصدر سابق، ص : 18
[14] - ينظر بخصوص تفاصيل نظرياتهم الفيزيائية في الموقع التالي : www.calphysics.org/index.html
[15]- (15) Herver Poirier ( et autres), " Le vide pourra -t-il unifier la théorie ", in : Science et Vie, N° 1029, Juin 2003, PP.60-61. ( Dossier : Le vide est plein d’énergie)
[16]- Marc Lachiez- Rey, " Les paradoxes du vide " In Sciences et avenir hors-série, N°135, Juin/Juillet 2003. P : 43.
[17] - للتأمل فقط، ما علاقة هذه " المجانية " الإبداعية و الخلقية " للفراغ الأصلي" ب " مجانية" ذلك الإبداع من لاشيء في القرآن الكريم " خلق السماوات و الأرض و لم يعي بخلقهن" ( الأحقاف ، آية 33 ) و " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " ( الإنسان، آية : 1).؟؟
- [18]) أنظر نص الحوار الذي أجرته « Libération »مع الفيزيائي البلجيكي إدغار كانزيك، نقلا عن :
Dominique leglu, " le vide est ailleurs ", Juin 1999, Bruxelles, envoyé spécial, Doc. Internet.
[19]- Danah Zohar, " Quel rapport entre Dieu et la physique ? " in, ( Hébdo-Suisse), construire N° 43, 26/10/1999. ( www.construire.ch)
[20] - ينظر روبرت إس سيغلر،" التفكير لا يخضع للتقسيم العمري "، ترجمة و تقديم عمر بيشو، مجلة علوم التربية ، العدد 24، مارس 2003( و هو في نظرنا إشكال يتحدى العلم على غرار ما هو قائم فيزيائيا، أي أن ما كشفه هذا السيكولوجي الأمريكي من دور أساسي لما هو ميكروتطوري في تفعيل تلك الميكانيزمات - إلى جانب ذلك الماكروتطوري أو ما يعرف بالباراديغم المراحلي ( بياجي، كول بيرغ، والون...)- يستدعي هو الآخر " معادلة جديدة "/ نظرية موحدة، تمفصل هي الأخرى بين نتائج الظواهر المراحلية و التحولية المعرفية . Variabilité cognitive