يعد الموسيقار الكبير محمد سلطان أحد أساتذة التلحين فى الأغنية العربية، وقد نال هذا اللقب عن جدارة من خلال مسيرته الفنية الثرية، التى بدأت منذ أكثر من خمسين عاما، حين بزغ اسمه فى سماء الطرب بين أساطين التلحين أو أدباء النغم ال

الموسيقار الكبير محمد سلطان: السادات استدعانى بسبب «العيون الكواحل»!


يعد الموسيقار الكبير محمد سلطان أحد أساتذة التلحين فى الأغنية العربية، وقد نال هذا اللقب عن جدارة من خلال مسيرته الفنية الثرية، التى بدأت منذ أكثر من خمسين عاما، حين بزغ اسمه فى سماء الطرب بين أساطين التلحين أو أدباء النغم الذين يعبرون بالأنغام ما قد تعجز عنه أبلغ الكلمات. عشق الموسيقي، فعصف النغم، بخياله فجسده فى نغمات بيانو يستعطف الحبيب، أو أوتار كمان تبكى لوعة الفراق، وأحيانا فى احتفاء الأورج باللقاء. رصيد ضخم من الرومانسيات وأعمال عظيمة لا يعلوها الصدأ تغنى بها: ليلى مراد وصباح وسعاد محمد ووردة وكارم محمود وعادل مأمون وعشرات الأصوات التى اكتشفها وأصبحت تتصدر الساحة الغنائية. صلة رحم خفية تجمع بين مؤلفاته، مغزاها رهافة الإحساس وحسن التعبير. أى أعلى درجات الصدق تلك هى المكانة التى تبوأها رئيس جمعية المؤلفين والملحنين، حيث يجاهد لرفع مستوى الوعى العام بحق المبدع الحقيقى المؤلف والملحن ـ معنويا وأدبيا. وإذا كانت الكلمة هى التى تحفر مجرى اللحن فقد حرص على اختيارها وبث الروح فيها بأنغامه التى يؤكد أنها لا تهبط على الملحن من السماء فقط، ولكن التلحين كدح وموهبة ودراسة لا تعرف الارتجال. فالفنان لا يصل أبدا إلى «سدرة المنتهي» اعتقادا منه أنه بلغ القمة الشماء. كلا فمن يفعل ذلك يتحجر. فالفنان نحلة تفرز فى دأب ومثابرة ونظام وهذا ما لا تعرفه الأجيال الحالية التى تتعجل الجلوس على كرسى الأستاذ أولا لا التلميذ. شكل سلطان مع رفيقة عمره فايزة أحمد ثنائيا غنائيا قلما يتكرر فقد أحبها حبين: «حب الهوى وحبا لأنها أهلا لذاكا». فهى سيدة الإحساس والشجن. التى مازالت أعمالهما معا شأن كل الإبداعات الرفيعة لا تفض أسرارها وتظل تحمل دلالات ومعانى كلما تقدم الزمن. جو من الهدوء والتوازن النفسى يستشعره من يجلس إلى محمد سلطان، ولكنه سيلمح نظرة تشاؤم سرعان ما تتلاشي، فالعتمة الفنية الحالية والغمام لن يدوم، أنه «تفاؤل» ابن المدينة التى اعتادت أن تنفث السحر والجمال والإبداع. اسكندرية كمان وكمان.
فى حوار «الذكريات» نحرص على الاستفسار دائما عن أثر البيئة فى إيقاظ الموهبة الفنية تعميقا لمعرفتنا بالمبدع والإفادة من تجربته الإنسانية؟
بالفعل، فالبيئة والتربية الفنية وتنمية الحس الجمالى والارتقاء الثقافى كل هذه العوامل لها أثر بالغ فى بزوغ موهبة الفنان الذى يكون فى بدايته كالعصفور، لا يغرد إلا إذا صحا الجو العام من حوله فقد تنحبس الموهبة حينا من الزمن لكنها ستظهر حتما حين تصبح الظروف مواتية، وعلى المستوى الشخصى فقد كان للبيئة فى مدينة الإسكندرية دور رئيسى فى بزوغ موهبتى الموسيقية والقصة تعود لما قبل ميلادى حين استشعرت والدتى أنها ستنجب يقين ولدا وتمنت أن يكون صوته شجيا يشنف الآذان مثل صوت مطربها الأثير محمد عبدالوهاب، فنصحتها إحدى صديقاتها بإعطاء مولودها المتوقع ملعقة من عصير الرمان بمجرد ولادته ضماناً لكى يصبح صوته جميلا، وفعلت هذه الوصفة بحذافيرها. فأصبت بنزلة معوية وحين علم الطبيب وجه إليها اللوم لأنها لم ترضعنى فى البداية، ثم تمنحنى ما شاءت من وصفات. فوالدتى - رحمها الله - كانت سيدة رائعة محبة للحياة تعشق الموسيقى والغناء وكانت تعزف البيانو. استشعرت بحدسها حبى للموسيقى وأنا فى الثالثة من عمرى. حيث كنت أدندن قبل أن أخلد للنوم، وحين بلغت السادسة كنت قد تشبعت بعزفها على البيانو، إضافة لشرائها آلة العود من أجلي، وتركتنى مع أوتارها وحدى فى هذه السن الصغيرة أتأمل أوتارها وأداعبها. فتفجر عشقى للعود ملك الآلات الوترية ولم يفارقنى منذ الثامنة من عمري، فالفنان يمتص رحيقاً موسيقياً ثم يضيف ما ترسب فى وجدانه من مشاعر وأحاسيس تتحول لأنغام تصل للناس بصدق التعبير وبساطته. فأنا كنت أستمع إلى كل السيمفونيات العالمية وأعمال كبار الملحنين فى مصر، وكانت والدتى تحرص على إتاحة الفرصة أمامى لسماع الأغانى الفرنسية والإيطالية، كان غذاء موسيقيا دسما اسهم فى تكوين عضلاتى الفنية. وفى سن السادسة عشرة أصبحت قائداً لفرقة موسيقية. وقدمنى موسيقار الأجيال عبدالوهاب كأصغر ملحن لإذاعة الإسكندرية.
ولكن كيف تعرفت بعبدالوهاب، ولماذا درست الحقوق بالرغم من موهبتك المبشرة فى الموسيقى؟!
كنت مأخوذا بمحمد عبدالوهاب كمطرب يمتلك صوتا من أجمل الأصوات وأبلغها. معجباً بألحانه إلى أقصى درجة بل إننى كنت أحفظ كل أغانيه تقريبا. كنت فى الثانية عشر من عمرى حين امتدت يدى لدليل التليفون تبحث فى شوق وفضول عن رقم تليفون الموسيقار الكبير بالإسكندرية، حيث كان يقضى أشهر الصيف فى فيلته الخاصة بشاطئ جليم وكانت لا تبعد عن منزلنا سوى مائتى متر فأدرت قرص التليفون وأنساب صوته المميز وأخبرته أننى فى الثانية عشرة ومن أكثر معجبيه وأقوم بالتلحين أيضا. ثم دعانى لزيارته فذهبت إلى الفيلا، وأشار الحارس إلى وجود الأستاذ بجوار سيارته الموريس البيج. فبكيت وكتبت له خطابا أعاتبه فيه لأنه لم يوف بوعده واستهان بمشاعرى التى جرحها وتركت رقم تليفونى 60958 وصباح اليوم التالى أيقظتنى والدتى لتخبرنى أن شخصاً أسمه محمد عبدالوهاب على التليفون يريد التحدث معى! فنهضت قفزا من سريرى وفى كلمات مقتضبة طلب رؤيتى فى الحال. وبمجرد أن شاهدنى أمامه بالشورت القصير قال: أنت محمد سلطان يا حبيبى وقبلنى بحنان، ومنذ تلك اللحظة ارتبطت به إنسانيا، وعاد معى إلى منزلى وفوجئت والدتى بأن محمد عبدالوهاب الذى كان يتحدث مع ابنها هو المطرب الكبير. وأصبحت قريبا من عائلته أتناول الغذاء معه هو وزوجته إقبال نصار أم أبنائه وفى الوقت نفسه نشأت صداقة بينه وبين أسرتي، وحاول إقناع والدى وكان ضابطا بالبوليس بأننى سأصبح ملحنا كبيرا ومن الأفضل أن أدرس الموسيقى لكن الوالد أصر على إلحاقى بكلية الحقوق لدراسة القانون وامتثلت لإرادته. فأنا استفدت كثيراً من التوازن فى التربية بين الوالدين، ففى البدء التحقت بكلية فيكتوريا وكانت الوالدة تتحدث معى ومع أشقائى الفرنسية بمجرد اتقاننا النطق، ثم قرر الوالد أن أعتنى بالمثل باللغة العربية وحفظ القرآن وحصلت على الثانوية من مدرسة الرمل الثانوية. فأنا أعتقد أن طاعة الوالدين هى سر نجاحي.
كيف نمت ثقافتك الموسيقية لتصبح من أساتذة التلحين بهذه العصامية الفنية؟
الحب يصنع المعجزات. وحبى للموسيقى دفعنى لتعلمها. فقمت بشراء كتاب »البونا« لأ تعلم النوتة الموسيقية، وأصبحت أفك الخط وحدى ثم أحضرت مدرسا لأتعلم المقامات. وهذا أمر طبيعى فهل يزاول إنسان مهنة لا يفقه فيها شيئا؟ ولكن هذا يحدث الآن. وأشاهده كثيراً بصفتى عضواً فى لجنة الاستماع فى الإذاعة، امتحنت العديد من الملحنين الذين يجهلون المقام أو دليله بلغة الموسيقى. لا يعرفون السلم الموسيقى فأسألهم كيف تقومون بتأليف الموسيقى أذن؟ ويكون الرد أن الموزع هو الذى وضع المقدمة، فأندهش كيف يكتبون أنهم ملحنون؟ وحين سألت الموزع عن أسلوب التلحين لم يعرف هو أيضا، ولكنهم أفادونى بأنهم يستعينون بالـ keyboard ويقومون بوضع الخط الأول فيعطيه الكمبيوتر الخط الثانى. فأخبرتهم أن هذا ليس تلحيناً أو توزيعاً ولكنه توزيع الحائط. نحن الآن نعانى انحطاطا موسيقيا غير مسبوق، فهم يفتقدون الحد الأدنى من الثقافة الموسيقية. وانهيار الموسيقى والغناء كفيل بانهيار كل الفنون لأنهما قاطرة الرقى والازدهار فى مختلف العصور.
اجتذبتك السينما وقمت بتمثيل 11 فيلما هل يعزى السبب إلى تعدد القدرات ووفرة المواهب. أم السبب الوسامة التى كانت تعتد بها السينما آنذاك فى المقام الأول؟
التمثيل فن تعبيرى يتطلب تقمصاً وانفعالا وخيالا وغيرها من القوى الوجدانية، كان لدى ميل داخلى لذلك بحكم تكويني، ولكن الصدفة كانت حاضرة فى نقطة البداية. فوالدى كان يمتلك مدرسة للفروسية فى (سموحة) اشتراها من مدرب خيول فرنسى شهير صفى أعماله بالإسكندرية وعاد إلى بلده. وفى أحد الأيام أثناء قفزى بالحصان شاهدنى المخرج يوسف شاهين وعرفنى بنفسه وعرض عليّ العمل معه فى فيلم "الناصر صلاح الدين" وأخبرنى أن تصويره سيستغرق عامين وأننى إذا صبرت وقاومت ورفضت العروض السينمائية التى ستعرض عليّ فسيقوم برعايتى سينمائيا ويتولى أمري، لكن أثناء التصوير. عرض على تمثيل فيلم "يوم بلا غد" أمام فريد الأطرش، وفى منزله تعرفت على فايزة أحمد ثم تزوجنا عام 1963 لكننى لحنت لها قبل الزواج بعض الأغانى أشهرها، «أمر يا قمر أمرك ماشي» وتوالت أعمالنا الثنائية التى بلغت 250 عملاً لفايزة وحدها من مجمل ألحانى التى تقترب من 600 لحناً منها ألحان لليلى مراد وصباح وكارم محمود وسعاد محمد ومها صبرى وماهر العطار وسوزان عطية.
اكتشفت العديد من الموسيقيين والمطربين أشهرهم عمر خورشيد ومجدى الحسينى وسميرة سعيد وهانى شاكر ونادية مصطفى وأسهمت فى مسيرتهم الفنية فى بداية الطريق مثل ميادة الحناوى وأصالة ومحمد ثروت فما هو أسلوبك فى تقديم المواهب الجديدة؟
إذا كانت الموسيقى الشرقية لها شخصيتها ومغرقة فى المحلية شأن الموسيقى الهندية واليونانية فهما لذلك عالميتان. فالموسيقى العربية الأصيلة التى تتمتع بالبساطة وصدق الأداء كفيلة بالوصول للعالمية. دون حاجة لدواعى التغريب، لأن السلم الموسيقى عالميا، فالخامة واحدة لكن العبرة بمدى ملاءمة اللحن لقومية مستمعيه، وحين نلجأ للموسيقى الغربية يصبحون هم (الأصل) ونحن التقليد فأنا حين استمعت لعمر خورشيد بالصدفة أثناء تناولى للعشاء مع فايزة أحمد فى أحد الملاهى طلبت من الجرسون دعوته للجلوس معنا، وحدث التعارف وسألته إذا كان يرغب فى الالتحاق بالفرقة الماسية فطار من الفرح، وقال إنه حلم حياته وشاءت الأقدار أن أتعرف على مجدى الحسينى وقدمتهما للمرة الأولى على المسرح معى فى أغنية "خليكوا شاهدين" لفايزة أحمد، وكلاهما أصبح علما يشار له بالبنان فى مجاله. أما سميرة سعيد فقد تعرفت عليها أنا وفايزة فى حفل عيد ميلاد الحسن الثانى ملك المغرب حيث طلب منى الاعتناء بها ومساعدتها فنيا بالألحان، فأخبرته فايزة أننا سنصحبها معنا إلى القاهرة وبالفعل جاءت إلى منزلنا وأقامت معنا فى بداية حياتها الفنية وقمت بالتلحين لها فيما يتعلق بنادية مصطفى فلم أتعجل التلحين لها وطلبت منها التريث لكى أظهرها بالشكل المناسب وأستغرق الأمر عاماً قبل تقديم أغنيتها الأولى التى مازالت تشتهر بها وتحمل اسمها (مسافات) وكل مطرب وصاحب موهبة له حكاية والعبرة فى تقديم أى موهبة جديدة أن تكون متميزة للغاية. لا تشبه أحداً ممن يصلون ويجولون على الساحة ولابد أن تتحلى بالذكاء فالموهبة يحميها الذكاء والمطرب الذكى يعرف متى وأين وكيف وماذا يغني؟ وأهم شيء بالنسبة للملحن المقتدر أن يقوم بوضعها فى الثوب واللون المناسب لها بصورة تجعلها متفردة، وفيما يتعلق بهانى شاكر يبتسم الموسيقار محمد سلطان ويقول فله قصة مختلفة.
هل انتقد عبدالحليم حافظ أغنيته "سيبونى أحب" التى قمت بتلحينها له؟
نعم إذ إن هانى شاكر كان قد وقع عقداً مع شركة صوت الحب، وفى إحدى المرات صحبه الشاعر الكبير مأمون الشناوى لزيارة الأستاذ عبدالوهاب لإعطائه دفعة للأمام بعد أن لحن له الموجى أغنية "حلوة يادينا"، فقال عبدالوهاب لمأمون الشناوى إذا كنت تريد عملا بروح جديدة لهذا المطرب فاذهب فوراً إلى منزل محمد سلطان وسأخبره تليفونيا بالموضوع أثناء ذهابكما، وأثناء، حديثه التليفونى معى قال لي: أريدك أن تصنع له لحنا مميزا للغاية وافترض ياسيدى أن هناك من سيحاربه وهو يستنجد بالناس ولعله يقول مثلا: سيبونى أحب. سيبونى أغني، وانتهت المكالمة وعلقت كلمة "سيبوني" فى ذهنى فاتصلت بمجدى نجيب وأوحيت له بالمعانى والخواطر ومحورها سيبوني، وكانت فايزة تقف بجوارى وأنا أتحدث مع عبدالوهاب وهى تعرفه كفنان جيداً وأنا اعرفه كإنسان قبلها فضحكت وقالت أنه يريد إثارة عبدالحليم حافظ فكانت تدرك ذكاء وحرب الوسط الفني، وأوضحت لى رؤيتها: فعبدالوهاب كقامة فنية من المفترض ألا يطاولها أحد لكن عبدالحليم بموهبته الجبارة كان يصطدم برأسه. لذلك فهو يريد شخصا آخر يخبط دماغه فى عبدالحليم وليتفرج هو لأن عبدالوهاب ككيان فنى أكبر من ذلك ولا ينافسه أحد. ولكن فى النهاية عبدالحليم ظل هو، عبدالحليم إلى يومنا هذا وذهب الجميع كل فى طريق.
ما الذى يجمع بين أصحاب المواهب الفذة فنيا. وكيف كانت علاقتك بعمالقة جيلك من الملحنين؟
كبار الفنانين والمبدعين مواهبهم طاغية، وكل منهم يحمل بصمة مميزة، تدفعهم مواهبهم للعمل والمثابرة وغزارة الإنتاج أى الاستمرار ودوام البحث عن الجديد ومعظمهم متواضعون، لأن الفنان إذا شعر بأنه وصل للقمة تحجر ولا يقدم على أى جديد، وأنا شخصيا لم تستهونى متعة تكرار ألحانى الناجحة، وكنت فى كل مرة أحرص على ارتياد آفاق جديدة لم يبلغها أحد فالموهبة عطية من الخالق وفى أسماء الله الحسنى "الوهاب ثم الرازق" فالله يوهبنا لكى يرزقنا أيا كان عطاؤه، فيما يتعلق بعلاقتى بزملاتى من الملحنين يكفى أن تعلمى أن بليغ حمدى حينما علم بمرضى أثناء محنته ومنعه من دخول مصر كان يواصل الاتصال بى يوميا ويحذرنى من عدم مغادرة مصر التى كان يعشقها وكمال الطويل كان يستيقظ أحياناً مبكراً وبعد وفاه فايزة أفاجأ به يوقظنى من النوم ونتناول إفطارنا معا، أنه جيل رائع إنسانيا ومهنيا من الصعب أن يتكرر، ويسعدنى أننى كنت اصغر منهم قليلا فى السن لكننى اثبت وجودى وسط هؤلاء العمالقة عبدالوهاب وفريد الأطرش والسنباطى والموجى ومحمود الشريف ومنير مراد ومحمد فوزي، وهذا مقياس لنجاحى لأننى لو ظهرت والساحة خالية فلا يعد ذلك انجازا فنيا.
كيف أصبحت علاقتك بعبدالوهاب بعد أن نضجت فنيا. وهل كان هو معلمك الأوحد أو كما يقال لا يوجد مريد بين شيخين، وماذا تعلمت من هذا العملاق الذى تتلمذ أيضا على يد أمير الشعراء أحمد شوقي؟
عبدالوهاب كان أباً فنيا بالنسبة لى وهو قدوتى الأولي، والإنسان الذى ليس له قدوة ليس أمامه مستقبل، فأنا دفنت عبدالوهاب بيدى حين لم يحضر أحد من أفراد عائلته لسبب أو لآخر، وتتبعت سيارة الإسعاف من مسجد آل رشدان إلى مقابره بالمجاورين، ومكثت نصف ساعة مع (التُربي)، ثم قال لي: إكرام الميت دفنه ألست ابنه؟ قلت له نعم وقرآنا القرآن وأودعته فى مستقره الأخير، رحمه الله كان فنانا قلما يجود بمثله الزمان، وقد تعلم من أحمد شوقى ثقافة حياتية وكان يحرص على صحته ووقته وفنه وينصحنى بألا أضيع وقتى بالجلوس مع أى أحد، فالناس من وجهة نظره مثل الأوانى المستطرقة لابد أن يحدث توازن بينهم، نأخذ ونعطى والشخص التافه يبدد الوقت، فالإبداع لديه كان حالة عامة تتمثل فى الهواء النقى والمناظر الجميلة وكان يحرص على مجاراة العصر فى إطار الحدود السليمة، إضافة إلى امتلاكه حاسة نقدية سمحت له بتجويد أعماله وتسجيل ملاحظات على كل معاصريه وأن كان لا يجب الإفصاح عن أرائه على الملأ حرصاً على مصالحه الخاصة، امتدح ألحانى فيما بيننا - وكثيرا ما فعل ذلك ووصف بعضها بأنها نقلة موسيقية للأمام وأننى سبقت عصرى فى أغنيات: دنيا جديدة وعلى وش القمر، وخليكوا شاهدين، وكان يعتبرنى بمثابة امتداد فنى له، ولكن من أسوأ ما ورثته منه عن غير عمد طابع الوسوسة الفنية وشعورى بالقلق والخوف من عدم نجاح اللحن الجديد.
قال موتسارت إنه كان يستمع أحيانا إلى ألحان سيمفونية كاملة فى ذهنه قبل أن يقوم بتدوينها. وبيتهوفن كان أصما. فهل التلحين موهبة تعتمد على الإلهام بصورة أكبر من الفنون الأخري؟
التلحين الموسيقى إلهام وتكنيك يتقنه الإنسان ولكن الإلهام والحدس المفاجئ الذى يباغت المبدع له قصة مع كل ملحن، فكثيراً ما كانت فايزة أحمد توقظنى من النوم لأننى كنت أدندن وتقول: اصح يا محمد اشتغل. دماغك فيها مزيكا وخواطر داخلية مشتعلة، وبالفعل استيقظ ويبدأ الوعى فى ترتيب الأفكار والجمل اللحنية بصورة سليمة. والمفارقة فى التلحين أنه موهبة تعتمد على نبض المشاعر والأحاسيس، ولكنها عملية حسابية على الورق أثناء تدوينها وتمرس الملحن واقتداره هو الذى يرفع هذا التناقض الظاهري.
بصفتك رئيسا لجمعية الملحنين والمؤلفين ما هى أكبر العقبات التى تواجه المبدع فى الوقت الحالى وما هى طموحاتك فى هذا الصدد؟
المبدعون مظلومون فى العالم العربي، فالمبدع أى المؤلف والملحن لابد أن يأتى قبل المطرب لأن قمم الغناء والطرب لا قيمة لها بدونه فالمطرب عفوا ليس كل شئ فى الغناء، فعدد أعضاء الجمعية 1300 عضو وحقوق الأداء يحكمها القانون الدولي، لكننا نعانى من عدم الالتزام بدفع حقوق الأداء، بل إن اتحاد الإذاعة والتليفزيون يدفع فقط 400 ألف جنيه لكل المبدعين وبعض الفضائيات لا تلتزم، فلابد من رفع وعى الجماهير بقدر المبدع والحرص على ذكر اسم المؤلف والملحن فى كل وسائل الإعلام وأنا أترقب الأحوال بتريث بعد ثورة يناير وأتعشم أن تسير الأمور فى بلادنا بصورة سليمة دون الجور على حقوق الآخرين، وأتمنى أن يتغير المناخ العام لأن المتلقين من أبناء الجيل الحالى درجة استيعابهم للموسيقى الجيدة محدودة جداً، فهل يعقل أن كل الأغانى من مقام الكرد لأنه ليس به ربع تون؟ بالرغم من أننى استعمله لكن بصورة صحيحة، ولابد أن نتذكر دائما أننا أخذنا ريادتنا فى العالم العربى من الغناء والفن أولا، وكانت أم كلثوم هى القادرة الوحيدة على تجميع كل العرب على شيء واحد دون خلاف.
تزوجت فايزة أحمد (كروان الشرق) وهى فنانة استثنائية جداً فما هى دخائل شخصيتها خاصة أنها عانت فى طفولتها، وصرحت يوما أنها اضطرت للغناء فى إحدى المرات من أجل قطعة شيكولاتة وليرة لبنانية وماذا عن علاقتكما الفنية؟
هى بالفعل فنانة استثنائية جدا لم أر فى حياتى من يعشق الغناء على الدوام مثلها، كان الغناء هو الشريان الذى يربطها بالحياة، وقبل وفاتها بساعات غنت لى أغنية "ايوه تعبنى هواك" ثم بكت وقالت أنا تعبت وتمكن منى المرض، وهى للعلم لبنانية من مواليد صيدا وليست سورية، تزوجت عمر نعامى السورى والد ابنتها فريال، ثم مختار العابد وأنجبت منه اكرم وأماني، وحصلت من خلاله على الجنسية السورية، وحين تزوجتنى عام 1963 حصلت على الجنسية المصرية وأنجبنا توءمان عمرو وطارق ويعملان طبيبين الآن فى فرنسا، ففايزة انفصل والدها عن والدتها وهى طفلة صغيرة واضطرت للغناء وهى فى الثامنة من عمرها، وفى العاشرة كانت تقف على خشبة المشرح وتتقاضى أجرا لمساعدة والدتها وأشقائها، لذلك كانت حنونة جدا لديها إحساس مرهف ودفء حقيقى غير مصطنع، تتصف بالكرم الشديد. البساطة والتلقائية من أبرز صفاتها. يسكنها إيمان عميق، فكانت تصلى وهى على فراش مرضها الأخير وتقرأ القرآن، وهى بطبيعتها تحب منزلها وقد لا تغادره إذا لم يتطلب الأمر ذلك. وقد ساعدها ذكاؤها الحاد فى تألق موهبتها، وأذكر أنها كانت تتلصص على غرفتى حين أنفرد بتلحين أغنية لها وتسترق السمع وحين أفرغ من المذهب وأطلب منها الحضور لسماعه، لان الملحن الجيد يدرك جيدا خامة الصوت وأبعاد القوة ومداها للمطرب الذى سيؤدى لحنه كانت تفاجئنى قائلة: خلاص أنا حفظته، ثم تعيده أمامي، كان بيننا (هارمونية) فى المشاعر ومعايشة فنية، وفايزة امرأة تحب وتغنى بكل جوارحها ولا تعرف أنصاف الحلول أذكر أن حرارتها بلغت الأربعين حين أصيبت بإنفلونزا حادة فى الشتاء وطلب الطبيب إلغاء حفلتها فى المساء وإلا تعرضت لالتهاب رئوي، ولكن بمجرد أن سألها المتعهد هل يرد ثمن التذاكر للجمهور كما طلبت أنا منه. بكت بحرقة وقالت أنا سليمة، وبعد أن انتهت من الغناء وعدنا إلى المنزل قالت لي: أنا لست مريضة كانت الماديات آخر ما يعنيها وكثيرا ما قدمت هى وعبدالحليم حافظ حفلات خصيصاً لمساعدة أحد المتعاهدين حباً منهم فى الغناء ولو بدون مقابل. كانت أم كلثوم تعشق صوتها وتتصل بها بعد حفلاتها ووصفتها بأنها من أجمل الأصوات النسائية العربية.
هل كانت بارعة حقا فى التقليد وقد عرف عنها خفة الظل فى الوسط الفني؟
يبتسم ويقول: لبلبة كانت تسألها كثيرا عن الأسلوب الأمثل لتقليد بعض الشخصيات، ويمكنك سؤالها. وأذكر أن الفنانة الكبيرة وردة كانت مدعوة مع بعض الأصدقاء فى منزلنا طلبوا منها الغناء، لكنها رفضت لأنها تعرف شقاوة فايزة فى التقليد وهى تدرك يقيناً تقدير فايزة لموهبتها. وكثيرا ما كانت تقوم بتقليد وردة أمام عبدالوهاب ويموت من الضحك، وكانت تجيد أيضا تقليد فيروز وأسمهان، وبالمناسبة أن فيروز وقفت فى بدايتها فى كورال فايزة أحمد فى لبنان وموهبة التقليد لديها كانت تعتمد على التقاط أى شيء over فى الأداء، وفايزة وعبدالحليم كانا أشيك أداء فى الوسط الغنائى بالفعل وفى إحدى المرات طلب منها عبدالوهاب تقليده فقالت: ربما غضبت يا أستاذ! فاندهش عبدالوهاب وقال لها هذا يعنى أن أدائى به بعض العيوب، وصرحت له بانتقادها (للنحنحة) فالعرف أثناء التسجيل أن لا يوجد دوى لإبرة فى الأستوديو وسألته هل يعود ذلك للفت نظر المعجبات فضحك كثيرا وقال لها «يخرب عقلك» يا فايزة.
كيف كانت علاقتكما بالرئيس السادات ولماذا أغلق الستار عليها أثناء غنائها أمامه فى إحدى المناسبات الوطنية؟
فايزة كانت تلقائية جداً أذكر أنها كانت تتحدث فى إحدى المرات مع ملك المغرب وفوجئت بها تقول له: أنت موهوب موسيقياً لكن لا تعرف المقام كذا، فقلت لها أمامه أسمها جلالتك يا فايزة، فضحك وقال أتركها كان الله فى عونك يا سلطان، والأمر كذلك مع الرئيس السادات الذى كان يعشق صوتها، وفى إحدى المرات اتصل بى مكتبه وأوصلنى به واتفقنا على اللقاء فى اليوم التالى فى استراحة القناطر وسألنى فى لهفة هل احضرت العود معك كما طلبت منك؟ قلت نعم.، وطلب منى عزف أغنية "العيون الكواحل سابونى آه آه ولذيذ المنام حرمونى يا رفاقى ساعدوني" وهى أغنية استلهمها مجدى نجيب من التراث وبصوته الأجش غناها وكان راكزا على المقام تماما مثل أى محترف، وأخبرنى أنه يحفظ كل الأغانى الصعبة وأنه مبسوط منى لأننى استطعت الوقوف بصوت فايزة بألحانى أمام كل الملحنين، فأنا من وجهة نظره مكافح مثله! واتفقنا على إعداد أوبريت "مصر بلدنا" فيما يتعلق بواقعة فايزة فكانت تغنى وشعروا بأنها أطالت بعض الوقت وكان هناك بعض المطربين الذين سيعتلون بعدها المسرح فقاموا بإغلاق الستار وهى لم تنه الأغنية فما كان منها إلا أن خرجت وقالت بكبرياء هل يرضيك ياريس أن يغلق الستار على فايزة أحمد؟ ففتح الستار وأكملت الغناء وتعمدت الإطالة ثأرا لكرامتها، فكانت عنيدة لا تترك حقها. رحمها الله فمازلنا نقتات من هذا الفن الجميل الذى كان فنا صحيحاً بحق. لذلك عاش لأنه فى النهاية لا يصح إلا الصحيح.
- بلغت أعمال محمد سلطان نحو 600 عمل منها ما يقرب من 250 لحنا لفايزة أحمد. قدم للساحة الغنائية الأغانى العاطفية، واللون الشعبى للأبنودي، والرومانسى لمجدى نجيب وعمر بطيشة ومحمد حمزة وعشرات الشعراء الآخرين. ابتكر أوزانا جديدة فى الموشحات، تمتاز موسيقاه بالاعتماد على الوتريات. كانت أغنيته لفايزة "بحبك يا مصر" من أبرز أغانى ثورة يناير. له أوبريت وطنى "مصر بلدنا"، الكلمة من وجهة نظره وثيقة الصلة بالنص، فهو لا يستطيع التلحين مسبقا فى المطلق كما يحدث الآن ثم يتم البحث عن الكلمات والمطرب.