كانت تجلس منفردة بمقهى "الشمس" وقد استقرت على منضدة قابعة في ركن قصي مولية وجهها اتجاه الحائط المكسو بالورق المزخرف، حين بزغ أمامها بقامته الفارغة وطلعته الوسيمة، ألقى إليها بالتحية وهو يجذب الكرسي المجاور، ثم جلس بمواجهتها، تبادلا النظارات هنيهة، ثم قال وهو يسعل بافتعال:
- اعتذر عن التأخر.. فقد كان أمامي شغل قمت به قبل أن آتي إليك.
ردت بصوت راجف
- ظننتك لن تحضر.
وهل يصح هذا يا عزيزتي أنا إنسان يحترم مواعيده.
لكنك تغيرت كثيرا في هذه الأيام الأخيرة.. لم تعد ذلك الإنسان الذي عرفته لأيام خلت. لم يعلق على عباراتها، مطط شفتيه، وعقد ما بين حاجبيه ثم شبك يديه إلى بعضهما، وظل ينظر إليها بصمت. تابعت الحديث بنبرة مضطربة:
- أتساءل لماذا تفقد أغلب علاقاتنا الإنسانية بريقها بسرعة، وتتحول إلى روتين قاتل.. وتصبح المجاملات والتكلف هما دعامتها الأساسية؟
- ربما كان للزمن دخل في ذلك فنحن.. خاضعون لناموس تطور يقضي بتغيرنا.. إننا نتغير رغم أنوفنا، نحن ضعفاء لا نملك نواصي أنفسنا. عقدت يدها على صدرها.. بدا وجهها شاحبا ترعى بين تقاسيمه ظلال الكآبة والحزن. أحست برعشة غريبة تسري في جسدها بللت شفتيها الجافتين بلسانها وظلت تنظر إليه بصمت. تابع كلامه بتوتر:
- أنت تعلمين أن حبي لك ثابت.
قاطعته غاضبة:
- هذا مجرد كلام أجوف تطلقه على عواهنه، أنا أعلم أنني تقادمت ولم أعد تلك التحفة التي تستهويك، لقد شبعت مني وصرت في نظرك مجرد تراث تقتضي منك أصول اللياقة، احترامه إلى حين، قبل أن تنفض يديك منه إلى الأبد.
- أنا أحبك
الحب تضحية.. وأنا ضحيت بكل شيء من أجلك، لكنك لم تفعل شيئا من أجلي.
- ماذا تريدينني أن أفعل؟؟
لقد أجببتك وكفى !
اعترتها فجأة موجة سعال حاد، فمالت برأسها إلى مسند المقعد، وهي تضع يدها على فمها، أحست برغبة قوية في البكاء، لكنها كظمتها وقالت:
- حبنا يختنق، وما يلبث أن يسلم الروح، ونفترق، لقد خمنت له هذه النهاية منذ مدة.
لا تقولي هذا.. كوني عاقلة حبنا حي يرزق ولابد أن نستمر..
- نستمر.. طبعا نستمر في الظل .. أليس هذا ما تريده؟؟
ها أنت ذي تعزفين مرة أخرى على وتر الزواج.
ماله الزواج أتراه يفزعك إلى هذا الحد؟؟
- طبعا لا.. لكن..
قاطعته وعلى شفتيها ابتسامة سخرية:
- لكن أنت ابن عائلة كبيرة ووالدك تاجر كبير لن يرضى لك بفتاة مسحوقة مثلي، أبوها يشتغل بوابا لإحدى عماراته..
- أنا لم أقل هذا؟؟
- لكن سلوكك يقوله وتصرفاتك تنطقه، أنت وأنا نقيضان، ولقاؤنا أصبح مستحيلا.. الطبقية شيء يسبق الحب وكل العواطف النبيلة.
لملم شتات نفسه، بدا عليه الاضطراب، أحس أن ما فاهت به صحيح تماما، ولا يمكن بأي حال قول عكسه، الطبقية غول أسطوري تصعب مقاومته وتتحطم عند جبهته كل القيم الأخلاقية ويصبح السمو والفضيلة والتآلف مجرد هراء، مجرد كلام لا معنى له، إنه يدرك أن عقله يرفض فكرة الإرتباط بها من الأساس، رغم أن قلبه مندفع نحوها بشكل جنوني. تقاليد طبقته لن تسمح له أبدا بربط مصيره بمصيرها. وإلا سوف يضطر إلى الإنتحار طبقيا وهذا شيء لا يستطيع تحمله لأنه مشوار مفتوح نحو المأساة وطريق مفروش بشوك الفقر، إن أفراد طبقته لا يمانعون أبدا في قيام علاقات من هذا النوع، لكن في حدود معينة لا تصل إلى درجة الزواج.. حدود لا تتجاوز المتعة الجسدية..
سألته وهي تدفع إلى الخلف خصلة من شعرها الكستنائي، انسدلت على جبينها:
- أين غبت؟
- أنا معك.. لم أغب..
- تبدو شاردا فيم تفكر؟!
- أنا لا أفكر بشيء...
لم تكن له الجرأة والقدرة الكافيتان ليجهر برأيه، ويعري عن ذاته أمامها.. كما فعلت هي. أمسكت يده فجأة، أحس دفئا غريبا، علقت أنظار كليهما بالآخر قالت وهي تبتسم:
- أعلم أنك تتعذب مثلي.. عقلك مع ناسك وأهلك وقلبك معي أنت ضحية لتناقض خطير، من الخير لنا أن نترك بعضا، لم أعد قادرة على تعريض سمعتي إلى الوشوشات والكلام الطاعن.
- ولكنني أحبك.
- أصدقك لكن العمر يهرب بي، ولا أريد أن يحكم علي حبك بالعنوسة.. لابد أن أتزوج وأصبح أما.. إنه طموح كل امرأة تمشي على وجه البسيطة.
- إذن تحبذين الفراق.
رشفت من فنجان القهوة الباردة، الذي كان أمامها، مسحت بعينيها الذابلتين فضاء المقهى ثم مدت يدها تأخذ حقيبتها من على المنضدة وهي تقول:
- أظن أنني سأودعك الآن.. وأتمنى لك سعادة كاملة مع إحدى بنات طبقتك.
قامت من مكانها.. ظل هو صامتا، تبادلا نظرة قصيرة، مدت له يدها مودعة ضغط عليها بحنو، تلألأت في عينيه دمعتان أسرع يمسحهما وهو يقول:
- وداعا..
خرجت.. تابعها بأنظاره حتى غابت، انتابته فجأة موجة شوق كبير إليها، وانهالت الذكريات من كل جانب.. صعب جدا أن يفقد المرء إنسانا محببا إلى قلبه وينساه بسهولة، فثلاث سنوات من الحب لا يمكن أن تطمر وينتهي أمرها بهذه السهولة!!
محمد محضار 16 ابريل 1987
نشرت هذه القصة بجريدة العلم ثم النهار المغربية..........