معلومات خطيرة
كانت الساعة تشير إلى السادسة مساء عندما دخل ياسر عرفات قاعة المؤتمر في معسكر وادي الزرقاء الذي يبعد عن تونس العاصمة حوالي 100 كيلومتر، وكان من المقرر أن يفتتح المؤتمر العام السابع لجبهة التحرير الفلسطينية في الساعة الخامسة مساء، ولكنه وصل متأخراً وسط إجراءات أمنية مشددة وغير عادية . فدخل القاعة التي غصت بالمؤتمرين وبعدد كبير من رجال الصحافة العربية والأجنبية والوفود الصديقة من حركات التحرر العالمية، واستقبل بالتصفيق الحاد.
استمع عرفات إلى كلمات الوفود الصديقة والعربية ثم إلى كلمة أبو العباس، الذي كان يبدو سعيداً بنجاح مؤتمره حيث تم انتخابه من قبل أعضاء الجبهة أميناً عاماً ولم يدرك أحد آنذاك أن هذا الرجل الذي كان يتحدث عن جبهته والساحة الفلسطينية بهدوء وثبات، سيصبح بعد شهر واحد لغزاً محيراً تتحدث عنه وكالات الأنباء العالمية . كما لم يلاحظ أي من الموجودين ذلك الشاب الأسمر البشرة النحيف والمتوسط القامة والذي لا يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر، يقف قريبا من المنصة، خافياً مسدسه بذكاء ولا تبدو عليه سمات المرافق . وقد يكون إبراهيم سلمان نفسه لم يفكر في تلك اللحظة بأنه سيخوض حرب مخابرات في قصة من أخطر قصص الحرب السرية بين المخابرات الفلسطينية والموساد. وكانت عينا سلمان ترقبان الحضور بحذر، وعادة يشعر المرافق بالتوتر والقلق في مثل هذه اللقاءات والمؤتمرات مهما بلغت الاحتياطات الأمنية، فالمفاجآت غير السارة واردة في أية لحظة .
وأخيراً وقف عرفات وألقى كلمة تحدث في بدايتها عن تأييده للمؤتمر، ثم انتقل بسرعة إلى قضية حساسة وقال : " لقد وصلتنا معلومات من جهات صديقة مفادها أن مجلساً وزارياً إسرائيليا مصغراً قد اجتمع وقرر أن تشن إسرائيل غارة جوية على مقرات منظمة التحرير الفلسطينية " .
وأضاف : " وفى طريقي إلى هنا تحدثت مع المسؤولين التونسيين وأبلغتهم بالموضوع، فأعلنوا حالة الاستنفار في الجيش التونسي " . ثم واصل حديثه عن الأوضاع السياسية وخصوصا اتفاق عمان وضرورة مواصلة التحركات السياسية لعقد المؤتمر الدولي للسلام .
وكان واضحاً أن حديث عرفات بدا مستعداً لدى الكثيرين، فمسألة وصول الطائرات الحربية الإسرائيلية إلى تونس ليست سهلة من الناحية العملية، إلا أن مسحة من الرهبة سيطرت على القاعة، وكان التساؤل الوحيد الذي يدور في ذهان الحاضرين : هل يمكن أن تصل الطائرات الإسرائيلية إلى هذا المكان ؟ !
وتناقلت وكالات الأنباء حديث أبو عمار. وكانت هذه المعلومات بحوزة المخابرات الفلسطينية قبل عشرين عاماً من عملية لارنكا التي اتخذتها إسرائيل ذريعة لقصف مقر منظمة التحرير في حمام الشط ، وهو ما يؤكد أن عملية لارنكا كانت مجرد ذريعة . أما نية العدوان فميتة وجاهزة في انتظار التوقيت المناسب . تماماً كما حصل في الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 عندما اتخذت إسرائيل من اغتيال السفير الإسرائيلي أرجوف في لندن ذريعة لهذا العدو. وقد غطت أحداث لبنان آنذاك على السبب المباشر في الغزو، أي محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي الذي أصيب بشلل وأصبح مقعداً بعد العملية، إلا أن هذه العملية التي تردد أبو نضال خطط لها كانت من ضمن عدة عمليات كان – كما تردد أبو نضال يخطط لها فضلاً عن قائمة شملت عدة أسماء .
إلا أن نبيل الزملاوي، مدير مكتب المنظمة في لبنان، آنذاك كانت مفاجأته أكثر من الجميع عندما اكتشف بعد عملية اغتيال أرجوف أن الشاب مروان الذي يرتبط بعلاقة قرابة مع صبري البنا (أبو نضال) وتحديداً ابن أخته، كان أحد مرافقيه وكان كثيراً ما ينوب عنه ويمثله في المهرجانات السياسية في بريطانيا، ولم يدرك حقيقة انتمائه إلا بعد الحادث إذ تبين أن مروان كان أحد الذين نفذوا عملية اغتيال السفير الإسرائيلي وكانت لدى المخابرات الفلسطينية قبل الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 بشهور معلومات حول الحشود والاستعدادات الإسرائيلية للعدوان الذي خطط له أرئيل شارون .
في لارنكا
فجر يوم 25 أيلول 1985 اقتحم ثلاث مسلحين اليخت " فيرست " في ميناء لارنكا القبرصي حيث قتلوا امرأة واحتجزوا رجلين رهينتين مطالبين بالإفراج عن 20 معتقلاً فلسطينياً في السجون الإسرائيلية . وقد انتهت هذه العملية باستسلام الفدائيين الثلاثة ومن بينهم أيان ديفيسون البريطاني، بعد مقتل الإسرائيليين الثلاثة، الذين كانوا أعضاء في جهاز المخابرات الإسرائيلية
الموساد وكانت بينهم امرأة أصبحت معروفة في الموساد ومن ألمع الجواسيس الإسرائيليين .
وكان هؤلاء الإسرائيليين الثلاثة يشكلون وحدة تجسسية تقودها المرأة التي عملت في اليخت باسم " أستر بولزار " واسمها الحقيقي سيلفيا رافائيل واستعملت أثناء خدمتها في الموساد أسماء عديدة مستعارة وجوازات سفر مزيفة .
وكانت مهمة سيلفيا رصد تحركات الفلسطينيين في قبرص، عبر عميل للشبكة يدعى مصطفى صبرا، لقي حتفه عندما قررت " القوات 17 " تصفية هذه الشبكة . وقبل هذه العملية بشهور، قامت الزوارق الحربية الإسرائيلية باعتراض العديد من السفن التجارية التي كانت تقل مجموعات فلسطينية متوجهة من قبرص إلى لبنان، وكانت مهمة صبرا استدراج الفلسطينيين إلى سفن معينة ومعروفة تلك التي يستخدمونها للعودة إلى لبنان وإعلام إسرائيل عنها مما أدى إلى اعتقال العديد من المقاتلين والكوادر الفلسطينية من خلال اعتراض السفن اللبنانية والقبرصية . أما سلفيا فكانت مطلوبة لدى المخابرات الفلسطينية نظراً للجرائم العديدة آتى ارتكبتها، ولعل أهمها جمع المعلومات وتسهيل دخول فريق اغتيال من الموساد إلى بيروت لتفخيخ السيارة التي تم بواسطتها اغتيال أبو حسن سلامة قائد " القوات 17 " في 22 يناير ( كانون الثاني ) 1979 .
[color=#000066]وقد أحدث مقتل سيلفيا رافائيل صدمة عنيفة لدى الموساد وأوساط المخابرات الإسرائيلية التي كانت تعتبرها نادرة في حقلها وهذه الجاسوسة من مواليد جنوب أفريقيا من أب يهودي وأم غير يهودية، هاجرت إلى فلسطين المحتلة في شبابها وفى السبعينات انتحلت شخصية مصورة صحفية تحت اسم " باتريشيا روكسبرغ " وكانت مهمتها رصد الأحداث في الشرق الأوسط. ومن خلال شخصيتها الجذابة وعملها المثابر استطاعت أن تنشئ اتصالات مع شخصيات سياسية مسؤولة، وكانت مهمتها إعطاء إسرائيل معلومات تساعد في تصعيد المشاعر ضد الفلسطينيين، وفى النصف الثاني من السبعينات ظهرت سيلفيا في النرويج حيث التقت بمجموعة من عملاء الموساد وكانت مهمتها ملاحقة أبو حسن سلامة . ولكن التباساً حصل بين شخصين أدى إلى أن يقتل الموساد نادلاً مغربياً يدعى محمد بوشيكي ظاناً أنه قائد " القوة 17 " . وأثر هذا الحادث قبضت السلطات النرويجية على رافائيل وخمسة آخرين بتهمة القتل . وقال القاضي حينئذ أن الجريمة كانت جزءاً من عملية للمخابرات الإسرائيلية . ولم يمض سوى 19 شهراً حتى أخلى سبيل رافائيل لتظهر بعد ذلك فر باريس حيث جهزت شقة بمثابة مخبأ أمين لعملاء الموساد ثم اختفت بعدها عن الأنظار .
وفى عام 1979 تم اغتيال أبو حسن سلامة بتفجير سيارته لاسلكياً في بيروت . وتحدثت التحقيقات حينئذ عن اختفاء سيدة إنجليزية هادئة، كانت في الشقة المجاورة لمكان التفجير . وكانت سيلفيا تمتلك شققاً في تل أبيب وباريس وقلما كانت تقيم في إسرائيل، وكانت ترغب في اعتبارها يهودية، ولكن بعض الأوساط الإسرائيلية كانت ترفض ذلك باستمرار لأنها من أم غير يهودية .
[color:c21b=#000066:c21b]وأثر عملية لارنكا حددت القيادة الإسرائيلية توقيت الغارة على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، في حين اتخذت إجراءات أمنية فلسطينية لمواجهة اعتداء محتمل . وكعادتها قامت أبواق الدعاية الصهيونية بشن حملة كبرى ضد منظمة التحرير و الإرهاب لتشكل غطاء للعدوان الذي خططت له قبل شهور من الغارة . كما كانت المخابرات الإسرائيلية في الوقت نفسه تلاحق طائرة أبو عمار . وهكذا تقررت الغارة صبيحة اليوم الأول من تشرين الأول 1985 .